لنعش الطائر/قصة قصيرة
من سامر عبدالله في 25 نوفمبر، 2010، الساعة 10:27 صباحاً
الى كل الاحبة الذين غادروا دون ان اودعهم:ابو السعيد مراد...كليمنص خوري....عامر قاروط......ممدوح عدوان ....ممدوح نوفل....قائمة ممتدة باتجاه الحلم والشمس...كل عام وانتم نجوم تنير طريقنا المظلم
النعش الطائر/قصة قصيرة
حزم حقائبه واعلنها علي كل الملأ:"اليوم لم يعد لي مكان هنا،لقد ضاقت بي المدينة والنجمة باتت ترفرف في كل الزوايا،ورائحة الضحايا في كل زواريب المخيم.لقد خرجوا رافعين شارات النصر وتركونا لمصيرنا نواجهه وحدنا عزل الا من الدعوات لله ان يدرء الخطر عنا،وما ان رحلوا حتي نسانا الجميع ولم تفد دعواتنا الا باستجلاب عزرائيل الي المخيم وذبحنا بسكين ثلمة وبقلوب ميتة...لم اعد انتمي الي هنا،لم يبق احد اعرفه...الذين ركبوا السفن نفذوا بارواحهم،والذين بقوا اصبحوامادة لنشرات الاخبار تحصي عدد الشهداء منهم الاحياء او الاموات...لا فرق بين من بقي حيا او استشهد،لقد تساوينا جميعا...نحن جميعا اموات الان.لم يعد لي احد هنا ،عائلتي محيت من الوجود،وانا الناجي الوحيد منها الان."
هاتف صديقا له يعمل في الكويت طالبا منه بذل كل جهده لاصدار تصريح عمل وفيزا له.لم تمض الا اسابيع قليلة حتى خابره صديقه مبشرا:فيزا العمل اصبحت جاهزة وفي الطريق اليه.سافر الي تلك البلاد وحيدا لا يعرف بها احدا الا صديقه،وغادر بلادا ولد فيها ولم يبق له فيها احد....في مطار بيروت لم ينتبه ان ضابط الجوازات قد ختم وثيقة السفر بختم ازرق على الصفحة الاولى جاء فيه مغادرة دون عودة.اقسم اغلظ الايمان حين وطئت قدماه تلك البلاد الجديدة ان لا يغادرها الا مضطرا.عمل ليل نهار،لم يأل جهدا لتحسين دخله،حتي عندما كانت درجة الحرارة تصل الي الخمسين كان يعمل بلا كلل او ملل.عام انقضى دون ان يحس به،وحينما لاحت له فرصة جديدة لتحسين دخله عبر عمل جديد فوجئ ان قوانين الكفالة والعمل في هذه البلاد لا تتيح له نقل اقامته من الكفيل الاول الى الثاني الا اذا غادر البلاد وعاد بدعوة جديدة من كفيله الجديد.سأل كثيرا فقيل له انها اجراءات جديدة لتنظيم العمالة والحد من ظاهرة بيع الكفالات للوافدين،وان الامر طبيعي ،كل ما عليه المغادرة بضعة ايام والعودة مجددا ضمن اقامة عمل جديدة باسم كفيله الجديد.احتار الى اين يغادر،اقترح صديقه ان يسافر الى القاهرة لاسبوع،فهو يستحق اجازة للاستجمام بعد عام من العمل الشاق.توجه للسفارة المصرية طالبا فيزا سياحية،وبما انه مقيم نالها بسهولة وبترحيب من موظف القسم القنصلي،حزم حقيبة سفر صغيرة وحجز في رحلة سياحية وغادر على أمل الاستمتاع باجازة في ربوع المحروسة.وصل مطار القاهرة فجرا،انتظم في صفوف القادمين،وحينما وصله الدور وقدم وثيقة سفره مبتسما لاحظ تغير سحنة ضابط الجوازات فورا،ولم يلبث ان طلب منه التنحي جانبا حيث سيحضر موظفا لاصطحابه،لحظات وحضر ضابط استلم وثيقة سفره واصطحبه الى غرفة جانبية وطلب منه الجلوس والانتظار.مر وقت احسه كأنه الدهر كله،الي ان فتح الباب ودخل شخصان وبأدب واضح قالا له انهم سيسألانه بضعة اسئلة لضرورات امنية،ابتسم لهم قائلا:امن البلاد يهم جميع العباد.
لكن ابتسامته سرعان ما تلاشت حين ابتدأ المحقق بطرح الاسئلة,ستة ساعات كاملة من التحقيق لم يترك فيها المحقق شاردة أو واردة الا وغاص فيها،استفاض المحقق في الاسفسار عن كل جوانب حياته منذ ان ولد حتى وطئت قدماه ارض المعز.وتركزت الاسئلة على انتمائه التنظيمي،وخبرته العسكرية والدورات التي تلقاها،من من المصريين يعرف،لم اختار القاهرة دون غيرها لقضاء اجازته.....مئات الاسئلة لاحقه بها المحقق دون كلل او ملل.وما أن يجيب على أحدها حتى يوجه له سؤالا جديدا اشبه باللطمة المباغتة.ما ان انتهى التحقيق وتنفس الصعداء حتى ابتسم المحقق وقال:الان بمكنك الاستراحة وسيصحبك احد الاخوة الى غرفة الحجز الى ان تبلغنا مديرية الامن بقرارها ،اما ان يسمح لك بالدخول واما ان ترحل.لم يفقد اعصابه طيلة التحقيق ،لكنه ما ان سمع بامكانية ترحيله حتى جن جنونه وقال:لكنني قدمت هنا بفيزا رسمية صادرة عن سفارتكم هناك،فكيف لا يحترم توقيع سفيركم?
ابتسم المحقق مجيبا:لا علاقة للسفارة بالامور الامنية فهي من اختصاصنا هنا وهم لا يستطيعون تقديرها كما يجب،ورن جرسا ،سرعان ما قدما شرطي اشار له باصطحاب الشاب الى غرفة الحجز.لم تجد محاولاته الاعتراضية وسحبه الشرطي الى غرفة جانبية في قاعة الترانزيت بها بضعة كراس بلاستيكية وطلب منه الجلوس على احدها ريثما يحضر له اغراضه،انقبض قلبه من الحجز،مع ان الغرفة زجاجية وبوسعه مراقبة القادمين والمغادرين عبر زجاجها الا ان مجرد ان يكون محتجزا اصابه بالقنوط.لم يتعود طيلة عمره أن يسجن في مكان ضيق.والانكى ان الشرطي لم يذكر له شيئا عن المرحاض او كيفية تدبر الطعام.كان قد بات منهكا من الجوع والتعب،جلس على كرسي في طرف الغرفة وسرعان ما غط في النوم العميق.
حينما استيقظ كانت الساعة تقترب من منتصف الليل،احس بامعائه تتمزق من الجوع،وضرورة للذهاب الى المرحاض،دق على باب الغرفة مرارا الى ان سمع دقاته الشرطي المناوب،طلب منه الذهاب الى المرحاض،وفوجئ ان الشرطي قد وضع اصفاد الحديد في يديه.وحينما احتج اجاب الشرطي:دي الاوامر يا حضرة،مافيش حركة من غير حديد....اوضح له ان الامر لا يحتاج للحديد فاين سيهرب? الا ان الشرطي اصر اما الحديد واما لا مجال للذهاب الى الحمام...رضخ للاوامر مطأطأ راسه،وانتبه أن كل من لاحظه قد هز رأسه وكأنه يشاهد مجرما تم القبض عليه للتو.
في المسافة القليلة ما بين المرحاض وغرفة الحجز كان الاحباط قد نال منه،لقد شعر بمهانة كبيرة ولعن الساعة التي فكر بتغيير كفيله ومغادرة تلك البلاد.قبل أن يقفل الشرطي الباب عليه طلب منه طعاما فهو لم يأكل أو يشرب منذ الصباح،أجابه الشرطي.لازم اسأل سعادة الباشا منين يجيبولك الاكل.
غاب الشرطي قليلا وحينما عاد قال له:الباشا بيقولك اي حاجة عايزها ممكن نجيبهالك من المطعم بس انت حتدفع ،وكلك مفهومية وزوق.اخرج من جيبه خمسين جنيها وقال:احضر لنا طعاما ليصبح بيننا خبز وملح كما يقولون.ساله الشرطي ماذا يرغب ،فاجابه:على ذوقك،انا ضيف عندكم.انفرجت اسارير الشرطي وغاب قليلا ،وحينما اقبل كان يحمل كيسا كبيرا به دجاجا مشويا وخبزا وقارورتي ماء وعصير.وضعها امامه ومد يده ببقية المبلغ.ابتسم الشاب وردها له وقال:خليهم عشان الاولاد وتفضل نتعشي سوا.
في اليوم التالي تكررالامر،وكان قد بدأ الملل يتسلل اليه،اليوم الثالث تشاغل بمراقبة القادمين والمغادرين،كانوا يأتون من كل فوج عميق ويدخلوها امنين،الا هو فقد استعصت عليه ف
مع انتهاء اليوم الثالث ورحلة الحمام المكبل بالحديد ذهابا وايابا كانت اعصابه قد بدأت تتوتر .طالب برؤية الضابط المسؤول فجاءه جواب واضح:سيادته بيقولك لسه الرد ما جاش من المركز ولازم تستنى.
في اليوم الخامس هاتف صديقه مستفسرا عن الفيزا فأخبره انها لم تنجز بعد وستستغرق بضعة ايام اخر،لم يقل له عما تم معه حتى عندما مازحه صديقه بالقول:يا اخي مستعجل ليش اتهنى بالنيل والقاهرة،مين قدك يا عم.
في اليوم السابع وبينما كان ذاهبا الي المرحاض والحديد في يديه شاهد امرا أثار حفيظته وغضبه،مر من امامه مجموعة سياح يعتمرون قلنسوات ولم يعترضهم احد ونظر اليه احدهم نظرة ازدراء وتحدث مع جماعته فنظروا اليه وابتعدوا داخلين بسرعة.لم يعد رأسه يحتمل خاصة حينما ميز انهم مجموعة سياح اسرائيلين.عاد مهموما الي غرفة الحجز،وما ان استلقى علي الكرسي حتي داهمته الالام ولم يعد قادرا علي التنفس،احس كان سيخا من النار يخترق قلبه.اغمض عينه ولم يعد يحس بما حوله.مضت ساعات كل من نظر اليه احسه نائما،حتى الشرطي مر من امام غرفة الحجز مرات عدة ولم يلفت انتباهه اي أمر غريب الى ان استدعاه ضابط الامن المناوب وطلب منه احضار الشاب من غرفة الحجز لتسفيره خارج البلادولقد جاء الرد بمنعه من الدخول لانه يشكل خطرا على امن الدولة.امتعض الشرطي فقد خالط الشاب طيلة الاسبوع الماضي وعرفه عن قرب وادرك معدنه الطيب ،لكن ما باليد حيلة وما هو الا عبد للمأمور وعليه الان احضار الشاب مكبلا لتبليغه بقرار ترحيله.خاف الشرطي أن تثور اعصاب الشاب فطلب مساندة من رفيق اخر لاتمام المهمة بنجاح.اقترب من باب الحجز ونظر الى الشاب فوجده نائما،اشفق عليه،اقترب منه بهدوء،وضع كفه على كتف الشاب ،هزه بلطف وحنان واضحين لكن الشاب لم يستجب,اعاد الكرة مرارا لكن لا مجيب.ادرك عندئذ ان شيئا ما قد حصل للشاب.اقترب من صدره،أصاخ السمع،لم يسمع شيئا،أصابه الرعب حين تخيل أن الشاب قد فارق الحياة،لم تحمله ركبتاه فسقط على الارض منتحبا بينما هرع زميله الى الضابط لاخباره بالحادثة.جزع الضابط وطالب الشرطي بالتكتم على الخبر واللحاق به.اتصل بالطبيب المناوب الذي هرع الى غرفة الحجز.ما أن أتم فحص الشاب حتى اعلن انه قد توفى بالسكتة القلبية وحرر شهادة الوفاة بذلك.وطالب بتسليم الجثة الى ذويه والاسراع بدفنه.أسقط بيد الضابط الذي سارع الى مكتبه مهاتفا مسؤوله الاعلى في القاهرة طالبا المشورة.بعيد ساعة بلغ بتحهيز الجثة وشحنها الى البلد القادم منها الشاب على أول طائرة مغادرة. ولان الضابط لم يستطع تخمين ديانة المتوفي فقد استدعي على عحل حانوتيا وشيخا وخوريا وطلب منهم جميعا تجهيزه على عجل ودون اية اسئلة.
ما ان شحنت الجثة حتى تنفس الضابط الصعداء.لم تكتشف اي وكالة أنباء موت الشاب في غرفة الحجز،ولو اكتشفوا ذلك لحدثت مصيبة وشوهت سمعة البلاد.لكن بفضل حنكته وسرعة بديهته تم تجاوز هذه المصيبة ومن المؤكد ان القيادة ستكافأه على عمله ويحصل على الترقية الموعود بها من اعوام عدة.
انتبه ان حادثة موت الشاب انسته ان الليلة هي ليلة وقفة العيد الكبير،فلعن في سره هذا الغريب الذي افسد عليه بهجة استقبال العيد.الا ان فرحته هذه لم تطل ،ففي الجانب الاخر ما ان حطت الطائرة وانزل تابوت الشاب حتى احتار موظفو الامن في التعامل مع هذه الحالة.وسرعان ما استدعي كبير الخبراء القانونيين للادلاء بالفتوى القانونية للتعلمل مع التابوت.استرجع الخبير كل ما مر عليه من قوانين وعصر ذهنه مطولا حتى وجد المخرج القانوني من الورطة التي اوقعتهم القاهرة بها.في البدء طالب بمنع الطائرة التي اقلت الجثة من المغادرة واوجز مداخلته بالقول:لا يمكن ادخال الجثمان لاسباب عدة،اهمها ان الميت ليس مواطنا من مواطنينا،ولا يحمل فيزا صالحة لدخول البلاد وحتى ان كانت زمنيا صالحة الا انها اعطيت كفيزا عمل لشخص قادر على العمل وليس لجثة.ومن هنا فالواجب اعادة التابوت الى المكان الاخير الذي قدم منه الا وهو القاهرة.ما ان انهى الخبير كلامه حتى كان التابوت ،وفي لمح البصر ، محملا على متن الطائرة التي نقلته وخلال 6 ساعات من مغادرته القاهرة اليها مجددا،
ما ان حط التابوت على ارض المطار حتى كانت الطائرة قد احيطت بمجموعة من الامن المركزي ومنع اقتراب احد منها.احس الضابط ان الشاب الميت يسخر منه وجلس منتظرا قرار القيادة.و مجددا حمل التابوت على متن طائرة وتمت اعادته من حيث قدم..
يومان كاملان امضاهما التابوت متنقلا ما بين العاصمتين الى ان اقترح احد ما ان يتم شحن التابوت الى بيروت مادام الميت يحمل وثيقة سفر صادرة عنها.ولقي الاقتراح ارتياح الجميع.في مطار بيروت كان القرار حازما،المتوفي وان كان يحمل وثيقة سفر صادرة عن مديرية الامن العام الا انه ليس مواطنا لبنانيا وانما من اللاجئين الفلسطينيين وحينما غادر ختمت وثيقته بختم واضح ينص على ان مغادرته دون عودة ،وبالتالي ان كان سيعود فالمكان الوحيد له هو وطنه وليس لبنان الذي استضافه حيا لكنه لن يقدر على استضافته ميتا.وهكذا شحن التابوت مجددا الى القاهرة.طيلة ايام العيد طار التابوت ما بين العواصم الثلاث حتى مل من شحنه موظفو الطيران وضباط الامن وطالبوا الجهات السياسية بالتدخل لحل هذه المصيبة الطائرة.والتي قضت مضاجعهم ولم تترك لهم اي دقيقة للتمتع بالعيد.
في اجتماع ضم مندوبين عن امن الدولة ورئاسة الوزراء ووزارة الخارجبة تقرر التوجه للجامعة العربية لايجاد حل للنعش الطائر،خاصة ان كل من لبنان والكويت رفضتا ادخال الميت الى اراضيهما.وكأن الجامعة العربية كان ينقصها قضايا خلافية ليأتي هذا الميت ويزيد الطين بلة.الامين العام للجامعة ولحسم الخلاف وديا دعى الى اجتماع على مستوى المندوبين الدائمين،ظنا منه بامكانبة الحل وبالتراضي،لكن الاجتماع حمل تفجيرا لكل القضايا العالقة،وهكذا تبين ان الامر ليس فقط ايجاد مكان للجثمان الطائر وانما قلوب مليئة بالخلاف والتراشق والاتهامات المتبادلة،وبات النعش مفجرا للوضع كله .كاد الاجتماع ان ينفض دون حل لولا اقتراح اللحظة الاخيرة الذي جاء من المندوب الصومالي الذي تفتق ذهنه عن التالي :يتم حرق جثة الشاب وينقل رفاته الي طائرة يسمح لها في التحليق في جميع الاجواء العربية وفوق كل عاصمة عربية ينثر بعضا من رماد الشاب.
لقي الاقتراح اعجاب الجميع لكنهم اوضحوا ان القرار ليس بيدهم وعليهم نقل الامر للحهات المختصة.أنهي الاجتماع على ان يسلم حميع المندوبون الرد سريعا وخلال خمس ساعات كحد اقصى وخاصة ان امر الجثمان الطائر قد تسرب لبعض وكالات الانباء الغربية وبات يشكل فضيحة لجميع العواصم العربية.
لم تمض الا سويعات قليلة الا وكان رماد الشاب ينثر على امتداد العواصم العربية وبات الهواء الذي يتنفسه المواطنون العرب فلسطيني.
النعش الطائر/قصة قصيرة
حزم حقائبه واعلنها علي كل الملأ:"اليوم لم يعد لي مكان هنا،لقد ضاقت بي المدينة والنجمة باتت ترفرف في كل الزوايا،ورائحة الضحايا في كل زواريب المخيم.لقد خرجوا رافعين شارات النصر وتركونا لمصيرنا نواجهه وحدنا عزل الا من الدعوات لله ان يدرء الخطر عنا،وما ان رحلوا حتي نسانا الجميع ولم تفد دعواتنا الا باستجلاب عزرائيل الي المخيم وذبحنا بسكين ثلمة وبقلوب ميتة...لم اعد انتمي الي هنا،لم يبق احد اعرفه...الذين ركبوا السفن نفذوا بارواحهم،والذين بقوا اصبحوامادة لنشرات الاخبار تحصي عدد الشهداء منهم الاحياء او الاموات...لا فرق بين من بقي حيا او استشهد،لقد تساوينا جميعا...نحن جميعا اموات الان.لم يعد لي احد هنا ،عائلتي محيت من الوجود،وانا الناجي الوحيد منها الان."
هاتف صديقا له يعمل في الكويت طالبا منه بذل كل جهده لاصدار تصريح عمل وفيزا له.لم تمض الا اسابيع قليلة حتى خابره صديقه مبشرا:فيزا العمل اصبحت جاهزة وفي الطريق اليه.سافر الي تلك البلاد وحيدا لا يعرف بها احدا الا صديقه،وغادر بلادا ولد فيها ولم يبق له فيها احد....في مطار بيروت لم ينتبه ان ضابط الجوازات قد ختم وثيقة السفر بختم ازرق على الصفحة الاولى جاء فيه مغادرة دون عودة.اقسم اغلظ الايمان حين وطئت قدماه تلك البلاد الجديدة ان لا يغادرها الا مضطرا.عمل ليل نهار،لم يأل جهدا لتحسين دخله،حتي عندما كانت درجة الحرارة تصل الي الخمسين كان يعمل بلا كلل او ملل.عام انقضى دون ان يحس به،وحينما لاحت له فرصة جديدة لتحسين دخله عبر عمل جديد فوجئ ان قوانين الكفالة والعمل في هذه البلاد لا تتيح له نقل اقامته من الكفيل الاول الى الثاني الا اذا غادر البلاد وعاد بدعوة جديدة من كفيله الجديد.سأل كثيرا فقيل له انها اجراءات جديدة لتنظيم العمالة والحد من ظاهرة بيع الكفالات للوافدين،وان الامر طبيعي ،كل ما عليه المغادرة بضعة ايام والعودة مجددا ضمن اقامة عمل جديدة باسم كفيله الجديد.احتار الى اين يغادر،اقترح صديقه ان يسافر الى القاهرة لاسبوع،فهو يستحق اجازة للاستجمام بعد عام من العمل الشاق.توجه للسفارة المصرية طالبا فيزا سياحية،وبما انه مقيم نالها بسهولة وبترحيب من موظف القسم القنصلي،حزم حقيبة سفر صغيرة وحجز في رحلة سياحية وغادر على أمل الاستمتاع باجازة في ربوع المحروسة.وصل مطار القاهرة فجرا،انتظم في صفوف القادمين،وحينما وصله الدور وقدم وثيقة سفره مبتسما لاحظ تغير سحنة ضابط الجوازات فورا،ولم يلبث ان طلب منه التنحي جانبا حيث سيحضر موظفا لاصطحابه،لحظات وحضر ضابط استلم وثيقة سفره واصطحبه الى غرفة جانبية وطلب منه الجلوس والانتظار.مر وقت احسه كأنه الدهر كله،الي ان فتح الباب ودخل شخصان وبأدب واضح قالا له انهم سيسألانه بضعة اسئلة لضرورات امنية،ابتسم لهم قائلا:امن البلاد يهم جميع العباد.
لكن ابتسامته سرعان ما تلاشت حين ابتدأ المحقق بطرح الاسئلة,ستة ساعات كاملة من التحقيق لم يترك فيها المحقق شاردة أو واردة الا وغاص فيها،استفاض المحقق في الاسفسار عن كل جوانب حياته منذ ان ولد حتى وطئت قدماه ارض المعز.وتركزت الاسئلة على انتمائه التنظيمي،وخبرته العسكرية والدورات التي تلقاها،من من المصريين يعرف،لم اختار القاهرة دون غيرها لقضاء اجازته.....مئات الاسئلة لاحقه بها المحقق دون كلل او ملل.وما أن يجيب على أحدها حتى يوجه له سؤالا جديدا اشبه باللطمة المباغتة.ما ان انتهى التحقيق وتنفس الصعداء حتى ابتسم المحقق وقال:الان بمكنك الاستراحة وسيصحبك احد الاخوة الى غرفة الحجز الى ان تبلغنا مديرية الامن بقرارها ،اما ان يسمح لك بالدخول واما ان ترحل.لم يفقد اعصابه طيلة التحقيق ،لكنه ما ان سمع بامكانية ترحيله حتى جن جنونه وقال:لكنني قدمت هنا بفيزا رسمية صادرة عن سفارتكم هناك،فكيف لا يحترم توقيع سفيركم?
ابتسم المحقق مجيبا:لا علاقة للسفارة بالامور الامنية فهي من اختصاصنا هنا وهم لا يستطيعون تقديرها كما يجب،ورن جرسا ،سرعان ما قدما شرطي اشار له باصطحاب الشاب الى غرفة الحجز.لم تجد محاولاته الاعتراضية وسحبه الشرطي الى غرفة جانبية في قاعة الترانزيت بها بضعة كراس بلاستيكية وطلب منه الجلوس على احدها ريثما يحضر له اغراضه،انقبض قلبه من الحجز،مع ان الغرفة زجاجية وبوسعه مراقبة القادمين والمغادرين عبر زجاجها الا ان مجرد ان يكون محتجزا اصابه بالقنوط.لم يتعود طيلة عمره أن يسجن في مكان ضيق.والانكى ان الشرطي لم يذكر له شيئا عن المرحاض او كيفية تدبر الطعام.كان قد بات منهكا من الجوع والتعب،جلس على كرسي في طرف الغرفة وسرعان ما غط في النوم العميق.
حينما استيقظ كانت الساعة تقترب من منتصف الليل،احس بامعائه تتمزق من الجوع،وضرورة للذهاب الى المرحاض،دق على باب الغرفة مرارا الى ان سمع دقاته الشرطي المناوب،طلب منه الذهاب الى المرحاض،وفوجئ ان الشرطي قد وضع اصفاد الحديد في يديه.وحينما احتج اجاب الشرطي:دي الاوامر يا حضرة،مافيش حركة من غير حديد....اوضح له ان الامر لا يحتاج للحديد فاين سيهرب? الا ان الشرطي اصر اما الحديد واما لا مجال للذهاب الى الحمام...رضخ للاوامر مطأطأ راسه،وانتبه أن كل من لاحظه قد هز رأسه وكأنه يشاهد مجرما تم القبض عليه للتو.
في المسافة القليلة ما بين المرحاض وغرفة الحجز كان الاحباط قد نال منه،لقد شعر بمهانة كبيرة ولعن الساعة التي فكر بتغيير كفيله ومغادرة تلك البلاد.قبل أن يقفل الشرطي الباب عليه طلب منه طعاما فهو لم يأكل أو يشرب منذ الصباح،أجابه الشرطي.لازم اسأل سعادة الباشا منين يجيبولك الاكل.
غاب الشرطي قليلا وحينما عاد قال له:الباشا بيقولك اي حاجة عايزها ممكن نجيبهالك من المطعم بس انت حتدفع ،وكلك مفهومية وزوق.اخرج من جيبه خمسين جنيها وقال:احضر لنا طعاما ليصبح بيننا خبز وملح كما يقولون.ساله الشرطي ماذا يرغب ،فاجابه:على ذوقك،انا ضيف عندكم.انفرجت اسارير الشرطي وغاب قليلا ،وحينما اقبل كان يحمل كيسا كبيرا به دجاجا مشويا وخبزا وقارورتي ماء وعصير.وضعها امامه ومد يده ببقية المبلغ.ابتسم الشاب وردها له وقال:خليهم عشان الاولاد وتفضل نتعشي سوا.
في اليوم التالي تكررالامر،وكان قد بدأ الملل يتسلل اليه،اليوم الثالث تشاغل بمراقبة القادمين والمغادرين،كانوا يأتون من كل فوج عميق ويدخلوها امنين،الا هو فقد استعصت عليه ف
مع انتهاء اليوم الثالث ورحلة الحمام المكبل بالحديد ذهابا وايابا كانت اعصابه قد بدأت تتوتر .طالب برؤية الضابط المسؤول فجاءه جواب واضح:سيادته بيقولك لسه الرد ما جاش من المركز ولازم تستنى.
في اليوم الخامس هاتف صديقه مستفسرا عن الفيزا فأخبره انها لم تنجز بعد وستستغرق بضعة ايام اخر،لم يقل له عما تم معه حتى عندما مازحه صديقه بالقول:يا اخي مستعجل ليش اتهنى بالنيل والقاهرة،مين قدك يا عم.
في اليوم السابع وبينما كان ذاهبا الي المرحاض والحديد في يديه شاهد امرا أثار حفيظته وغضبه،مر من امامه مجموعة سياح يعتمرون قلنسوات ولم يعترضهم احد ونظر اليه احدهم نظرة ازدراء وتحدث مع جماعته فنظروا اليه وابتعدوا داخلين بسرعة.لم يعد رأسه يحتمل خاصة حينما ميز انهم مجموعة سياح اسرائيلين.عاد مهموما الي غرفة الحجز،وما ان استلقى علي الكرسي حتي داهمته الالام ولم يعد قادرا علي التنفس،احس كان سيخا من النار يخترق قلبه.اغمض عينه ولم يعد يحس بما حوله.مضت ساعات كل من نظر اليه احسه نائما،حتى الشرطي مر من امام غرفة الحجز مرات عدة ولم يلفت انتباهه اي أمر غريب الى ان استدعاه ضابط الامن المناوب وطلب منه احضار الشاب من غرفة الحجز لتسفيره خارج البلادولقد جاء الرد بمنعه من الدخول لانه يشكل خطرا على امن الدولة.امتعض الشرطي فقد خالط الشاب طيلة الاسبوع الماضي وعرفه عن قرب وادرك معدنه الطيب ،لكن ما باليد حيلة وما هو الا عبد للمأمور وعليه الان احضار الشاب مكبلا لتبليغه بقرار ترحيله.خاف الشرطي أن تثور اعصاب الشاب فطلب مساندة من رفيق اخر لاتمام المهمة بنجاح.اقترب من باب الحجز ونظر الى الشاب فوجده نائما،اشفق عليه،اقترب منه بهدوء،وضع كفه على كتف الشاب ،هزه بلطف وحنان واضحين لكن الشاب لم يستجب,اعاد الكرة مرارا لكن لا مجيب.ادرك عندئذ ان شيئا ما قد حصل للشاب.اقترب من صدره،أصاخ السمع،لم يسمع شيئا،أصابه الرعب حين تخيل أن الشاب قد فارق الحياة،لم تحمله ركبتاه فسقط على الارض منتحبا بينما هرع زميله الى الضابط لاخباره بالحادثة.جزع الضابط وطالب الشرطي بالتكتم على الخبر واللحاق به.اتصل بالطبيب المناوب الذي هرع الى غرفة الحجز.ما أن أتم فحص الشاب حتى اعلن انه قد توفى بالسكتة القلبية وحرر شهادة الوفاة بذلك.وطالب بتسليم الجثة الى ذويه والاسراع بدفنه.أسقط بيد الضابط الذي سارع الى مكتبه مهاتفا مسؤوله الاعلى في القاهرة طالبا المشورة.بعيد ساعة بلغ بتحهيز الجثة وشحنها الى البلد القادم منها الشاب على أول طائرة مغادرة. ولان الضابط لم يستطع تخمين ديانة المتوفي فقد استدعي على عحل حانوتيا وشيخا وخوريا وطلب منهم جميعا تجهيزه على عجل ودون اية اسئلة.
ما ان شحنت الجثة حتى تنفس الضابط الصعداء.لم تكتشف اي وكالة أنباء موت الشاب في غرفة الحجز،ولو اكتشفوا ذلك لحدثت مصيبة وشوهت سمعة البلاد.لكن بفضل حنكته وسرعة بديهته تم تجاوز هذه المصيبة ومن المؤكد ان القيادة ستكافأه على عمله ويحصل على الترقية الموعود بها من اعوام عدة.
انتبه ان حادثة موت الشاب انسته ان الليلة هي ليلة وقفة العيد الكبير،فلعن في سره هذا الغريب الذي افسد عليه بهجة استقبال العيد.الا ان فرحته هذه لم تطل ،ففي الجانب الاخر ما ان حطت الطائرة وانزل تابوت الشاب حتى احتار موظفو الامن في التعامل مع هذه الحالة.وسرعان ما استدعي كبير الخبراء القانونيين للادلاء بالفتوى القانونية للتعلمل مع التابوت.استرجع الخبير كل ما مر عليه من قوانين وعصر ذهنه مطولا حتى وجد المخرج القانوني من الورطة التي اوقعتهم القاهرة بها.في البدء طالب بمنع الطائرة التي اقلت الجثة من المغادرة واوجز مداخلته بالقول:لا يمكن ادخال الجثمان لاسباب عدة،اهمها ان الميت ليس مواطنا من مواطنينا،ولا يحمل فيزا صالحة لدخول البلاد وحتى ان كانت زمنيا صالحة الا انها اعطيت كفيزا عمل لشخص قادر على العمل وليس لجثة.ومن هنا فالواجب اعادة التابوت الى المكان الاخير الذي قدم منه الا وهو القاهرة.ما ان انهى الخبير كلامه حتى كان التابوت ،وفي لمح البصر ، محملا على متن الطائرة التي نقلته وخلال 6 ساعات من مغادرته القاهرة اليها مجددا،
ما ان حط التابوت على ارض المطار حتى كانت الطائرة قد احيطت بمجموعة من الامن المركزي ومنع اقتراب احد منها.احس الضابط ان الشاب الميت يسخر منه وجلس منتظرا قرار القيادة.و مجددا حمل التابوت على متن طائرة وتمت اعادته من حيث قدم..
يومان كاملان امضاهما التابوت متنقلا ما بين العاصمتين الى ان اقترح احد ما ان يتم شحن التابوت الى بيروت مادام الميت يحمل وثيقة سفر صادرة عنها.ولقي الاقتراح ارتياح الجميع.في مطار بيروت كان القرار حازما،المتوفي وان كان يحمل وثيقة سفر صادرة عن مديرية الامن العام الا انه ليس مواطنا لبنانيا وانما من اللاجئين الفلسطينيين وحينما غادر ختمت وثيقته بختم واضح ينص على ان مغادرته دون عودة ،وبالتالي ان كان سيعود فالمكان الوحيد له هو وطنه وليس لبنان الذي استضافه حيا لكنه لن يقدر على استضافته ميتا.وهكذا شحن التابوت مجددا الى القاهرة.طيلة ايام العيد طار التابوت ما بين العواصم الثلاث حتى مل من شحنه موظفو الطيران وضباط الامن وطالبوا الجهات السياسية بالتدخل لحل هذه المصيبة الطائرة.والتي قضت مضاجعهم ولم تترك لهم اي دقيقة للتمتع بالعيد.
في اجتماع ضم مندوبين عن امن الدولة ورئاسة الوزراء ووزارة الخارجبة تقرر التوجه للجامعة العربية لايجاد حل للنعش الطائر،خاصة ان كل من لبنان والكويت رفضتا ادخال الميت الى اراضيهما.وكأن الجامعة العربية كان ينقصها قضايا خلافية ليأتي هذا الميت ويزيد الطين بلة.الامين العام للجامعة ولحسم الخلاف وديا دعى الى اجتماع على مستوى المندوبين الدائمين،ظنا منه بامكانبة الحل وبالتراضي،لكن الاجتماع حمل تفجيرا لكل القضايا العالقة،وهكذا تبين ان الامر ليس فقط ايجاد مكان للجثمان الطائر وانما قلوب مليئة بالخلاف والتراشق والاتهامات المتبادلة،وبات النعش مفجرا للوضع كله .كاد الاجتماع ان ينفض دون حل لولا اقتراح اللحظة الاخيرة الذي جاء من المندوب الصومالي الذي تفتق ذهنه عن التالي :يتم حرق جثة الشاب وينقل رفاته الي طائرة يسمح لها في التحليق في جميع الاجواء العربية وفوق كل عاصمة عربية ينثر بعضا من رماد الشاب.
لقي الاقتراح اعجاب الجميع لكنهم اوضحوا ان القرار ليس بيدهم وعليهم نقل الامر للحهات المختصة.أنهي الاجتماع على ان يسلم حميع المندوبون الرد سريعا وخلال خمس ساعات كحد اقصى وخاصة ان امر الجثمان الطائر قد تسرب لبعض وكالات الانباء الغربية وبات يشكل فضيحة لجميع العواصم العربية.
لم تمض الا سويعات قليلة الا وكان رماد الشاب ينثر على امتداد العواصم العربية وبات الهواء الذي يتنفسه المواطنون العرب فلسطيني.
Keine Kommentare:
Kommentar veröffentlichen