عزرا يولد من رحم جوليات الفلسطيني/قصة ام هلوسات
من سامر عبدالله في 25 نوفمبر، 2010، الساعة 10:26 صباحاً
ازاح برأسه الي الوراء،رجع بذاكرته الي الايام الاولى للمفاوضات السرّية في أوسلو،في حينها تسربت الانباء الى قلة قليلة كان هو منها،ومع تسربها اشتعلت المعارك في الخفاء بين من بات يراهن على ان يتمخض الجبل فيلد دولة فلسطينية،وبين من رأى ان الجبل لن يلد الا فأرا،وحشد كل من الجهتين اسلحتهما للمعركة القادمة بينهما تاركان العدو يراكم اوراق قوته.وما ان اعلن الاتفاق العتيد حتى فوجئ بأن جميع من يعرفهم اختفوا في ليلة وضحاها،غادروا فرادا عائدين الي ما اسموه الوطن،يومها بقي وحيدا ،الاقرع والمصدي عاد،لكنه لم يعد،وحينما سأل بعض القيادات التي عادت والتقي بها في زياراتهم المتقطعة الي الخارج،كانوا لا يجيبون الا بكلمة واحدة لا مجال لاضافة اسمك نهائيا،لقد اقفلت قوائم الاسماء المقدمة من طرفنا للرئيس.في احد المرات رد غاضبا علي احد القواد الميامين:من حدد هذه القوائم ولم استثنيت منها،لم يجد صديقه القائد الذي كان يوما خلا لاسراره الا ان يقول:لقد حددت وانتهي الامر،يمكنني ان اقدم لك طلب التحاق كحارس لبيتي،وليس كمرافق،وعندئذ سينزل اسمك في قوائم الحراس ولن تحظي باي عمل اخر،اذا احببت يمكنني ذلك..ما ان سمع هذه الاجابة حتى ادرك ان طريقه قد بات بعيدا جدا عن طريق من عادوا الي السلطة،فهم عادوا فرادى يحلمون بكراس ومناصب وحكم،واعلنوا ان زمن الثورة قد انتهى وزمن بناء الدولة قد ازف.يومها سخر من اوهامهم وقرر ان ينسحب الى العتمة ويتفرج علي ما الت اليه الامور...سنوات طويلة لم يلتق احدا منهم،تشرد،جاع،مارس مهنا حقيرة ليعتاش منها ومن بعد ليسد رمق اسرة صغيرة كونها توجت بخروجه الي بلد اوروبي ازدادت فيه عزلته لدرجة كان يحس ان الصقيع يتسرب الي روحه.سنوات لم يحسبها ،كونه لم يتعثر باحد من رفاق الطريق السابقين،سنوات بات يتابع فيها الاوضاع من بعيد وعبر جهازه السحري الكمبيوتر.هناك كان ينفتح العالم امامه ويلج فيه ليرتشف من كل حدب وصوب.انساه عالم الانترنت خيباته المتكررة،لكنه اضاف حملا ثقيلا علي كاهله،لقد اكتشف انه ولسنوات عدة كان وحيدا،لا اصدقاء له،لا انس او جن يدق باب منزله،لم يكن يلتق الا بزوجته واطفاله،واصدقاء لا يعرفهم الا عبر شاشة الكمبيوتر.بات عالم الانترنت ياخذه بعيدا جدا ويمارس سحره عليه ليعوضه عن صعوبة الحياة بعالم لم يختبر حقيقته من الخيال المنتشر فيه.كانت الايام قد باتت تنال منه،ومن عزيمته،اصبح اكثر عزلة حتى عن اسرته،غزا جسده النحيل المتعب سرطانا صغيرا بدأ يأكل جسده وهو يراقبه بصمت دون تأفف ،لم ينتبه الى ان الانترنت اعاد وصله بالحياة التي انقطع عنها مطولا،فقد تعثر بعيد انضمامه الي الفيسبوك بالعديد من الاصدقاء السابقين.وهاله التغيير الذي طرأ عليهم،لم يكد يعرفهم،فقد باتوا يحتلون مراكز مرموقة في سلطتهم بعد ان كان جلهم نكرات فيمامضى.اعاد وصل العلاقة مع البعض منهم ...ومع تواصله الجديد كان يغوص من جديد في نقاشات ومواقف ظن انه نسيها...وبات لا يفارق جهاز الكمبيوتر لدرجة ان زوجته كانت في كل يوم تمازحه امام اولاده:يا خوفي حينما تموت ان توصي بدفن جهاز اللابتوب معك....ويجيبها ضاحكا:هذه هي وصيتي الوحيدة لكم.ومن كثر ترداد هذه المزحة بات كل افراد الاسرة شبه مقتنعين بانه سوصي بدفن كمبيوتره معه... مع الايام عاد الى توتره القديم ،وبات اي خبر يتعلق بالوطن يستفزه ويعيد الحنين الي روحه بالابحار الي هناك.كان يتأكل ببطء الي ان ازف اليوم الذي لم يعد جسده يحتمل برودة المنفى فتوقف قلبه فجأة.حينما دخلت زوجته الي الغرفة وجدته قد اسلم الروح بهدوء ودون ضجة ،لم تصدق انه انطفأ هكذا وبهدوء وهو الذي كان يملأ صخبه العالم كله .،كان متسمرا علي الكرسي ،ملامح وجهه كانت قاسية،لم تعرفه في اول الامر،فقساوة تعابيره لم ترها من قبل،كانت عيناه مفتوحتان الي ابعد مدى،ومازال بريق اشتعال يتفجر منهما مع ان صاحبهما قد فارق الحياة قبيل دقائق،انتبهت الى ان احدى يديه قد تكورت كأنه كان يهم بلكم شخص ما، شاشة الكمبيوتر امامه مفتوحة علي صور الابادة الجماعية في غزة.بكت بهدوء فلم تتخيل انها ستكون وحيدة في هذا البلد البعيد، لم تعرف ما تفعل،فلم تواجه الموت من قبل،فكيف الان والموت يخطف زوجها الذي احبته بصمت وصبر طويل?اي اجراءات تتبع وهي لا تعرف احدا في هذه القرية الملعونة،فمنذ ان قدموا اليها،وعيون اهل القرية تترصدهم وتلاحقهم اينما جالوا،لم تلمس اي ود في نظراتهم،لقد كان اهل القرية لا يحبون الغرباء،خاصة انهم من قبل لم يتعاملوا مع غرباء الا من الغجر.وحين حددت اقامتهم فيها من قبل دائرة الاجانب بعد ان قدم زوجها اوراق لجوئه لم يغادروها ابدا،فقد كان قد زهد بالعالم كله،وهكذا مرت السنوات دون احتكاك جدي مع سكان القرية الا كلمات قليلة في المتجر او مكتب الشؤون الاجتماعية.اتصلت بالاسعاف وهي باكية:لقد توفى زوجي قبيل دقائق واود مساعدتكم.خلال لحظات كانت عربة للاسعاف واخرى للشرطة امام البيت.وسرعان ما لحق بهم عربة تقل موظفين من دائرة الاجانب والبلدية.فحص دقيق لجثمان زوجها ،أعقبته بضع اسئلة،وختمت بالسؤال المدوي الذي تركها في حيرة كبيرة:اين سيتم الدفن؟ لم تتوقع ان يسألها احد من قبل مثل هذا الامر رغم ان زوجها منذ سنوات قد رتب لموته كما يشتهي.كان قد حزم امره وتبرع باعضائه الحيوية بعد وفاته اما جسده فقد رغب بأن يدفن في الوطن. وان تعذر ذلك يحرق جثمانه ويحتفظ به الى ان يعود احد من العائلة الى الوطن فيدفن رفاته هناك وبهذا تتحقق امنيته في ان تكون محطته الاخيره الارض التي طالما حلم بملامستها.
صمتت قليلا ثم اجابته بما خططه زوجها لمماته.فوجئ الموظف بأن المتوفي لديه بطاقة تبرع باعضائه الحيوية وهي صادرة منذ اعوام عدة عن المركز المختص وانه كان قد اتم كل الفحوص الجينية.بذهول سألها عن جنسية المتوفي،وعندما عرف انه فلسطيني استغرب كثيرافهو لم يكن قد سمع باسم هذه البلاد قط. . ما ان انجزت كافة اجراءات الوفاة حتى طلب من الزوجة التوقيع على اوراق السماح لهم بنقل الميت واوضحوا انهم ينتظرون اتصالا منها لاخبارهم باجراءات نقل الجثة او حرقها ان تقرر ذلك.
بعيد انصرافهم اطرقت طويلا فهي المرة الاولى التي يغادر بها زوجها المنزل ولن يعود اليه من جديد،أحست ان كل العالم من حولها يتساقط.،بات الافق امامها اكثر اسودادا من قبل،لكنها تماسكت فعليها نقل زوجها الى الوطن.كانت ضد فكرة الحرق من اللحظة الاولي التي طرحت بها الفكرة لكنه اصر عليها،لقد كان مقتنعا انها الوسيلة الوحيدة لضمان حقه في العودة.توحهت الى غرفة النوم وتحاشت ان تمكث بها مطولا خوفا من ان تنهار ، ركضت واخرجت المفكرة من سترة زوجها المعلقة ، اتصلت بالسفارة الفلسطينية في محاولة لانجاز هذا الامر،دقت الرقم وانتظرت طويلا حتي جاءها صوت موظف السفارة في الجانب الاخر.
-مساء الخير،انا فلسطينية ،واحتاج لمساعدة السفارة.-
تفضلي.
لقد توفي زوجي اليوم واود دفنه في الوطن،تلك كانت رغبته.
-رحمة الله عليه،كيف يمكن ان نساعدك?في اي مدينة تقطنين?
-انا اسكن في قرية نائية علي الحدود ولا عرب في قريتي .
نقل جثمان زوجك الي الوطن ودفنه هنالك قد يستغرق بعض الوقت.
-سنضعه في المستشفي حتي تنجز معاملات نقله.
-لا بد من بعض المعلومات لارسالها الي رام الله لاستصدار ترخيص بنقل الجثمان.
-تفضل اسأل.
-ما رقمكم الوطني?
-تقصد رقم كرت الاعاشة ?او كرت الاونروا?
- شو كرت الاعاشة هذا?
-هو الكرت اللي مع كل الفلسطينية.ليش حضرتك مش فلسطيني?
-يا اختي انا فلسطيني بس ما عندي هذا الكرت ولا بعرف عنه حاجة...خليكي علي الخط لاسال سعادة السفير.
غاب الموظف بضعة دقائق احستها كانها اياما طويلة وحينما عاد قال لها:-اسف لتاخيري،الان فهمت من سعادة السفير ان كرت الاعاشة يعطي للاجئين،الرقم الوطني اللي بسال عنه هو الرقم اللي كل مواطن فلسطيني من الضفة او غزة بيحمله،وعلي اساسه بيطلعله جواز سفر وبيتم التنسيق مع سلطات الاحتلال لتسهيل دخوله وخروجه من الوطن.اذ ممكن شو هو رقمكم الوطني?وجواز سفركم صادر من رام الله ولا غزة?
-يا اخي احنا ما عنا جواز سفر ،عنا وثيقة فلسطينية صادرة من لبنان وانتهت صلاحيتها من عشر سنين.
-يعني انتوا مش مواطنين،انتوا لاجئين من لبنان?
يا اخي احنا فلسطينية وبدي ادفن جوزي في وطنه.
-والله يا اختي المسالة هيك مستحيلة?
-ليش مستحيلة،واحد فلسطيني مات وبدو يندفن في وطنه...وين المستحيل فيها.?
-استغفر الله العظيم،يا اختي انتو لاجئين.
--شو يعني مش فلسطينية،كل شوية بتنطلي وبتقلي لاجئين...يعني احنا لاجئين من الصومال
?-العفو يا ستي ما قصدي اهين حضرتك،بس المسالة مش بايدنا،ودفن زوجك في الوطن مسالة اكبر منا بكتير.
-ما فهمت ليش اكبر منكم بكتير?
-يعني احنا مش فلسطينية?طيب معني كلامك انه السفارة ما الها علاقة فينا?
-يا اختي انتو لاجئين في لبنان ومش مواطنين،والمسؤول عنكم م.ت.ف،اما السلطة فهي مسؤولة بس عن سكان الضفة والقطاع
راح اشرحلك بالتفصيل،احنا هلق عم بنفاوض علي الدولة الفلسطينية ومسالة حل مشكلة اللاجئين من قضايا الحل النهائي اللي ما اجه دورها لسه،لساتنا في المحطة الاولي من المفاوضات اللي اصلا متوقفة عشان الاستيطان.وحتي لو رجعنا للمفاوضات ما راح تكون قضايا الحل النهائي اللي انتو من بينها اول ما راح نتفاوض عليه،وحتي لو كانت في الاول ما بقدر اقلك نتيجة المفاوضات يمكن ترسي علي التعويض او العودة الي اراضي الدولة الفلسطينية او تجنيس اللاجئين في الدول اللي همه فيها،وهادا كله بيحتاج مفاوضات طويلة وما بظن انه جثمان زوجك راح يستني كل هاي المدة.
-والحل يا اخي شو?
-معناها ما في حل قدامك الا تدفنيه في لبنان.هو من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان ومكانه الطبيعي لبنان.
-بس ما النا حدا في لبنان.
والله يا اختي ما فيني اساعدك اكثر من هيك ما ضل الا تدفنيه في اقرب مدينة الكم فيها مقبرة اسلامية.ا
اقفلت سماعة التلفون وهي حزينة،فقد ايقنت الان ان زوجها الذي قتله المنفى حكم عليه ان يبقى فيه الي ان تقوم الساعة.وهكذا سارعت الى اخبار السلطات المعنية باتمام حرق جثمان زوجها وتسليمها رفاته كاملا للاحتفاظ به من اجل ارساله للوطن حالما تسنح الفرصة لذلك.
في الوقت الذي كانت الزوجة تحاول بكل قوتها ارسال جثمان زوجها الى الوطن،كان عزرا يقود سيارته مسرعا لادراك الاجتماع السنوي المكرس للاعلان عن التبرعات المحولة الى اسرائيل،فما زال لديه العديد من التحضيرات قبيل الاحتماع المقرر عقده بعد يومين ،ابتسم وقهقه حين تخيل وحوه الحاضرين وهو يرمي بقنبلته امامهم:سيحول هذا العام عشرة ملايين يورو هي حصيلة ارباح يوم السبت طيلة عام كامل من فروع سوبرماركيتاته التي تجاوز عددها الالفين .كان يود الطيران ليسخر من اطبائه الذين حذروه مطولا من ان قلبه لن يتحمل هذا الاجهاد المتواصل ،وان عليه ان يخضع لعملية زرع قلب والا فان ايامه باتت معدودة.اقترب من هذه القرية البائسة،لا يدر كلما مر بها تذكره بمعسكرات الابادة النازية والتي طالما حدثه اباه عنها .كان طريقه دوما عبر القرية للوصول الى فيلته ،الواقعة على الطرف الاخر من الغابة و طريفها الوحيد هو هذه القرية الرمادية اللون.كانت العديد من الروايات تتناقل حول سكانها وعزلتهم .وعدم ترحيبهم بالاجانب. ورغم انه ينتمي لعائلة تسكن هذه البلاد من مئتين عام تقريبا الا انه كان يشعر دوما انه لا ينتمي الى هذه البلاد وان وطنه هو اسرائيل مع انه لا يعرفها الا من خلال زياراته القصيرة .ومع كل زيارة اليها كان حقده يزداد على هؤلاء الارهابيين الذين ينكرون على الشعب اليهودي العيش بطمأتيتة وامن وسلام.
لقد زاد توجسه من المرور عبر القرية بعد ان علم انها سمحت لعائلة ارهابية بالسكن على اراضيها.
علي مدخل القرية يبدو ان حادثا ما قد وقع،عربات للشرطة والاسعاف والبلدية تقف بهدوء.لايدر لم ازداد تشاؤمه ،خاصة حينما احس فجأة بنخزة حادة اعقبها الم حارق وكأن سكينا اخترقت قلبه.توقف فجأة باحثا عن علبة النتروغلسرين,اللعنة يضعها دوما في سترته,لم يجدها,احس كأن العالم يغيب من امامه.بات امام سيارة الشرطة.داس الفرامل بقوة ووضع يده على الزامور قبل ان يفقد احساسه بما حوله. خرج رجال الشرطة مسرعين فور سماعهم الضجة وصوت ارتطام السيارة بالرصيف.كان عزرا قد غاب عن الوعي،اسرع رجال الاسعاف باجراء تنفس صناعي له وربطه سريعا باجهزة العناية الفائقة.وهكذا تشاء الصدف ان ينقل عزرا وجثمان الميت معا وفي سيارة اسعاف واحدة الى المشفي،احدهم الى غرفة الانعاش والطوارئ والاخر الى المشرحة من اجل نزع اعضائه التي تبرع بها سريعا قبل فوات الاوان.هناك تم استئصال القلب والكليتين والكبد وقرنيتي العين،وبينما كان الاطباء يضعون الاعضاء المتبرع بها في اماكن الحفظ،كان الاطباء في غرفة الانعاش والطوارئ قد حسموا امر تشخيصهم حول حالة عزرا الصحية :لا يمكن ان يعيش دون زرع قلب فوري له،ويجب البحث عن متبرع تلائم انسجته الجينية انسجة عزرا.ارسل الاطباء تقريرهم سريعا الى ادارة المشفى الذين بدورهم ،ولاهمية وضع عزرا الاجتماعي في المنطقة ،قاموا بالاتصال بالمجلس اليهودي والمركز الرئيسي لاستقبال الاعضاء المتبرع بها.
انهى الاطباء حفظ الاعضاء من جثة المتوفي و بعد أن دونوا تقريرا مفصلا عن الزمر النسيجية ويوم التبرع واسم المتبرع وجنسيته تم تحويل الجثة الى مركز الحرق بناء على رغبة المتوفي .تحت اشراف طبي وبحضور مدير الشرطة في القرية ومسؤول البلدي ة .تم حرق الجثة وجمع الرفات،ووضع في صندوق اسود كتب عليه الاسم تمهيدا لتسليمه لعائلته.مع توصية بتقليد المتوفي وسام شكر باسم اهالي الولاية تقديرا لتبرعه باعضائه. وارسل الى مدير المشفى تقريرا فوريا لابلاغ كافة المستشفيات بوجود اعضاء متبرع بها لديهم .لم يصدق مدير المشفي ان الصدفة الربانية قد ساقت قلبا جديدا لعزرا وعلى بعد امتار قليلة منه.وبعد دراسة ملف كل من عزرا والمتبرع ايقن الاطباء ان السماء قد منحت عزرا فرصة من ذهب للحياة مجددا.
كان يمكن ان لا توهب الحياة لعزرا لولا ذلك اللاجئ الفلسطيني المجهول والذي كان عزرا يتمنى ابادته ومحيه مع جميع شعبه من الوجود.استدعي خبراء في زراعة القلب سريعا ولم تمض سوى سويعات قليلة الا وكان عزرا يخضع لعملية زرع قلب جديد.اول ما سأل عنه عزرا حين افاق في غرفة الانعاش اسم المتبرع وجنسيته ومكان سكنه ليشكر عائلته،لكن الطبيب اجابه ان هذه المعلومات غير مسموح باعطائها بناء على وصية المتبرع الذي فضل ان يبقى مجهولا.في الايام الاولى سار كل شيئ على ما يرام،وما ان انتهت فترة العناية المكثفة وسمح له بالمغادرة حتى قفز فرحا ،لقد اشتاق لعمله وفيلته ونشاطه السابق وكان يود معرفة رد فعل الحضور في الاحتفال السنوي على تبرعه الكبير.حين غادر المشفى عائدا الى فيلته مر من القرية مجددا،للمرة الاولى لا يشعر بالانقباض أو الانزعاج الذي ينتابه كلما مر من هنا،والغريب انه طلب من سائقه ان يتوقف امام منزل قصي لاكثر من ربع ساعة دون ان يعلم لم توقف هنا او ماذا يريد. كان شاخصا بنظره صوب المنزل وكأنه ينتظر شخصا ما ان يخرج منه.جتى السائق استغرب تصرف السيد لكنه خشي ان يقول شيئا.
مع كل يوم بدأت تظهر تبدلات على شخصية عزرا في البدء لم يعرها اي اهتمام لكنها استوقفته حينما انتبه الى انه
لم يعد يستسيغ بعضا من المأكولات اليهودية كالبيتشة او الجيكهات او التزيم ،وبات ينفر من الجفيلتي فيش،لعل ما اثار استغرابه، وهو المتدين ،انه طلب من الطباخ طهي اللحم باللبن وهي اكلة محرمة عند اليهود ولا يعلم من اين فكر بها.انتبه بعد عدة اسابيع انه لم يذهب للكنيس منذ خروجه من المشفى.ولم يعدمتحمسا لتلاوة الصلوات او التقيد بشعائر يوم السبت كما كان الامر من قبل.والانكى ان عيدي المظال ويوم الغفران قد مرا ولم يحس بهما لاول مرة في حياته.عادات كثيرة اختلفت عنده ،حتى انتبه الى انه بات يسمع انواعا غريبة من الاغاني لا يفهم كلماتها لكن الحانها تشده.اعتبر الامر في البداية نتيجة منطفية للعمل المتواصل والعملية الجراحية ،لكن الامر تفاقم يوما بعد يوم واصبح مقلقا له مع تزايد ابتعاده عن نشاطات مجلس اليهود في الولاية.كان قد بات يشعر ان في جسده شخصان يتصارعان للاستيلاء عليه،الاول يعرفه وعاش معه منذ ولادته ويدعى عزرا،اما الشخص الاخر فلا يعرف عنه شيئا،الا انه يكره الكثير مما كان يحبه عزرا. لقد بات يحب المرور في تلك القرية،لم يعد يجدها كئيبة او يخاف من مصادفته لتلك العائلة الارهابية.وهاهو يغتنم الفرص للذهاب الى ذلك المنزل المنزوي في اطراف القرية والجلوس امامه فترات طويلة دون ان يعرف لم يفعل هذا.
في تلك الليلة احس ان الامر لم يعد مللا او ضغط عمل،لقد هاتفه صديقه من تل ابيب يطلب منه البدء في حمله اعلامية كبيرة في كل اوروبا للدفاع عن وجهة النظر الاسرائيلية بعد مهاجمة سفن الاغاثة المتوجهة الى غزة.لم يكن قد سمع عن الامر بعد،شاهد نشرات الاخبار من قنوات عدة،مع انه كان فيما مضى لا يستمع الا لتلفزيون اسرائيل.تنازعته ولاول مرة مشاعر متناقضة،في البدء تحمس لما فعله الكوماندورز الاسرائيلي باعتباره دفاعا عن النفس،لكنه في الوقت نفسه احس بالقرف من الهجوم على نشطاء سلام عزل.كأنه لم يكن هو،كان يشعر بالفخر سابقا ،بل والنشوة والقوة ،كلما شاهد دماء اعدائه تسفك وتراق على يد جنود جيش الدفاع، لكنه لم يعد يعلم لم ينتابه الان هذا الشعور بالذنب والعار خاصة عند عرض صور القتلى من الاطفال والنسوة الاغيار او قصف البيوت وتدميرها فوق ساكنيها العزل.
بات دوره في المجلس اليهودي يتراجع،واصبح مضطرا الان ولاول مرة في حياته ان يعيش شعورين في ان واحد،امام اعضاء المجلس اصبح يزدداد تطرفا خوفا من فقدان سيطرته ومع ازدياد قسوته تتزايد الالام التي تصيب قلبه.كثيرا ما اصبح خائفا من انكشاف شعور التضامن الذي ينتابه مع الضحايا العزل من الاغيار كما كان يسميهم،وهو الذي كان يتفاخر في كل مجالسه ان اسمه كفيل بزرع الرعب في اعدائه فهو مشتق من عزرائيل ملك الموت وليس من اي ملاك رحيم.تزايد ما يحس به من صراع مما دفعه الى
مراجعة الجراح الذي اجرى عملية الزرع له.وبدء في تصفح جميع المعلومات المتوفرة في الانترنت حول التبدلات الطارئة على شخصية المرضى بعد زرع قلب لهم.
مقابلة الجراح تركته في حيرة كبيرة خاصة حين اوضح له عدم وجود اي تفسير علمي مؤكد لهذه التغيرلت وان كان يميل الى الرأي القائل بأن سبب هذه التغييرات يعود إلي تجدد حب هؤلاء المرضي للحياة بعدما كانوا علي وشك الموت. كما انه يعتقد كل خلية في جسم الإنسان تحتوي بشكل عام علي مجموعة متكاملة من الصفات الوراثية, وعند نقل عضو من إنسان لآخر تنتقل معه الصفات الوراثية الخاصة بالشخص المتبرع وهذا هو السر في تغيير سلوك وعواطف من تعرضوا لهذه النوعية من الجراحات, وفيما يخص القلب فبالإضافة إلي صفاته الوراثية, فهو يحتوي أيضا علي جزء من ذاكرة الإنسان وهو الجزء الذي له علاقة بذوق وميول وعواطف وأحاسيس صاحبه, وهذه الذاكرة هي سبب التغيرات التي تطرأ علي كل من تجري له عملية زراعة قلب, وتظهر هذه التأثيرات بوضوح إذا كان هناك اختلاف كبير بين ذوق وسلوك المتبرع والشخص الذي تم نقل هذا العضو إليه.
حديث الدكتور جعله اكثر اصرارا على معرفة المتبرع،وحينما لم تفلح محاولاته القانونية في ذلك،لجأ الى السلاح الذي يجيد استعماله،سلاح المال واستغلال نفوذه،وعبرهما فقط استطاع معرفة اسم المتبرع وجنسيته.اصابه الذهول والرعب حينما علم ان جسده يضم قلب عدوه في جنباته،لقد بات دون ان يعلم يحمل بين جنباته داود اليهودي
وجليات الفلسطيني.تمنى لو ان الارض قد بلعته ولم يحدث له هذا.ماذا سيقول الان للمجلس ان انكشف سره وهو سليل عائلة انجبت العشرات من الحاخامات والابطال الذين عملوا دون كلل او ملل لاقامة الدولة والدفاع عنها.
عاد للجراح طلبا للمعونة،فهو لن يستسلم لجليات المختبئ خلسة في جسده.كان جواب الطبيب واضحا :ليس امامك الا ان تتعايش مع التغيرات التي تمر بها أو ان تتغير انت وترضح لهذه التغيرات او تستطيع السيطرة عليها وتذويبه في شخصيتك.واي محاولة منك للسيطرة يجب ان تتم بهدوء وذكاء وبالتدريج.
خرج من زيارة الطبيب وهو مصر على ارضاخ ذلك الغريب المتواجد معه في حسده.لن يسمح لعدوه ان ينتصر عليه ويهزمه.وضع عزرا خطة قوامها استخدام نظام الصدمات المتكررة لتعويد قلبه على الرضوخ .استغرق في نشاطات المجلس وكلما احتاج المجلس لاي نشاط صدامي يكون في مقدمة الصفوف.كل النشاطات المؤيدة لاسرائيل اشترك فيها،ومع انه كان يشعر بالالام لا تطاق في صدره الا انه لم يكن على استعداد للتراجع او التعايش ،لقد اصبح الامر معركة حياة أو موت بالنسبة له.حتى عندما يضعف قليلا أو يحس ان جليات كسب نقاطا ضده كان يقور ويسارع الى استعراض صور المعارك التي شنها جيش الدفاع ضد اعدائه او عمليات القصف لغزة او حصار مبنى المقاطعة.ومع ازدياد قسوته في التعامل مع القلب المزروع كان يفاجئ بان القلب يتمرد عليه ويدخله في ازمات صحية أو غيبوبة تستدعي نقله الى العناية المركزة .
بات متيقنا ان جليات لن يستسلم ،وليس امامه الا ان يتعايش معه او استمرار الصراع بينهما الى الابد .بعد تفكير مطول توصل ان ليس من خيار امامه لاجبار عدوه على التسليم الا اتباع سياسة الارض المحروقة.فقد كان يعلم ان عائلة جليات ورفاته ما زالوا في ذلك المنزل المنزوي والقابع في اطراف تلك القرية.ولهذا قرر ان يحرق المنزل بكل ما فيه من بشر ورفات وذكريات.بهذا وحده يحطم صمود جليات ويجبره على الاستسلام بعد ان نفذت كل الوسائل الاخرى دون جدوى.لن يخبر احدا بما نوى فهي معركته وحده وعليه خوضها الى نهايتها.حدد ليلة 15 ايار موعدا لتنفيذ خطته.فهو يوم ولادة الدولة وسيكون يوم ولادته الثالثة من جديد.وسيهزم جاليت الى الابد.جضر كل شيئ بصمت وفي تلك الليلة كان القمر مختفيا والليل شديد الحلكة.قاد سيارته الى القريه ومنها الى ذلك المنزل المنزوي.اوقف سيارته بعيدا عن المنزل.هبط جاملا غالونا من البنزين،دار حول المنزل.الصمت مدو.الكل نيام.بدأ بسكب البنزين على اطراف المنزل من الخلف.أخرج علبة الثقاب ،ابتسم وقهقه بضحكة مكتومة.لن تمر ثوان الا ويكون كل ما يخص جليات قد بات رمادا منسيا وسينتصر داود من جديد . فتح علبة الثقاب.اخرج عودا وما ان بدأت اصابعه بالاقتراب لاشعاله حتى حدث ما لم يتوقعه،انتفض قلبه بقوة لدرجة اطاحت بعزرا ارضا وقبل ان يتماسك من جديد ويعيد المحاولة انتفض القلب بقوة وتوقف الى الابد.....
الفجر يرسل خيوطه الاولى...في تلك القرية النائية...وخلف ذاك المنزل المنزوي...كان عزرا ممددا جثة هامدة ورائحة البنزين تملأ الجو من حوله.
صمتت قليلا ثم اجابته بما خططه زوجها لمماته.فوجئ الموظف بأن المتوفي لديه بطاقة تبرع باعضائه الحيوية وهي صادرة منذ اعوام عدة عن المركز المختص وانه كان قد اتم كل الفحوص الجينية.بذهول سألها عن جنسية المتوفي،وعندما عرف انه فلسطيني استغرب كثيرافهو لم يكن قد سمع باسم هذه البلاد قط. . ما ان انجزت كافة اجراءات الوفاة حتى طلب من الزوجة التوقيع على اوراق السماح لهم بنقل الميت واوضحوا انهم ينتظرون اتصالا منها لاخبارهم باجراءات نقل الجثة او حرقها ان تقرر ذلك.
بعيد انصرافهم اطرقت طويلا فهي المرة الاولى التي يغادر بها زوجها المنزل ولن يعود اليه من جديد،أحست ان كل العالم من حولها يتساقط.،بات الافق امامها اكثر اسودادا من قبل،لكنها تماسكت فعليها نقل زوجها الى الوطن.كانت ضد فكرة الحرق من اللحظة الاولي التي طرحت بها الفكرة لكنه اصر عليها،لقد كان مقتنعا انها الوسيلة الوحيدة لضمان حقه في العودة.توحهت الى غرفة النوم وتحاشت ان تمكث بها مطولا خوفا من ان تنهار ، ركضت واخرجت المفكرة من سترة زوجها المعلقة ، اتصلت بالسفارة الفلسطينية في محاولة لانجاز هذا الامر،دقت الرقم وانتظرت طويلا حتي جاءها صوت موظف السفارة في الجانب الاخر.
-مساء الخير،انا فلسطينية ،واحتاج لمساعدة السفارة.-
تفضلي.
لقد توفي زوجي اليوم واود دفنه في الوطن،تلك كانت رغبته.
-رحمة الله عليه،كيف يمكن ان نساعدك?في اي مدينة تقطنين?
-انا اسكن في قرية نائية علي الحدود ولا عرب في قريتي .
نقل جثمان زوجك الي الوطن ودفنه هنالك قد يستغرق بعض الوقت.
-سنضعه في المستشفي حتي تنجز معاملات نقله.
-لا بد من بعض المعلومات لارسالها الي رام الله لاستصدار ترخيص بنقل الجثمان.
-تفضل اسأل.
-ما رقمكم الوطني?
-تقصد رقم كرت الاعاشة ?او كرت الاونروا?
- شو كرت الاعاشة هذا?
-هو الكرت اللي مع كل الفلسطينية.ليش حضرتك مش فلسطيني?
-يا اختي انا فلسطيني بس ما عندي هذا الكرت ولا بعرف عنه حاجة...خليكي علي الخط لاسال سعادة السفير.
غاب الموظف بضعة دقائق احستها كانها اياما طويلة وحينما عاد قال لها:-اسف لتاخيري،الان فهمت من سعادة السفير ان كرت الاعاشة يعطي للاجئين،الرقم الوطني اللي بسال عنه هو الرقم اللي كل مواطن فلسطيني من الضفة او غزة بيحمله،وعلي اساسه بيطلعله جواز سفر وبيتم التنسيق مع سلطات الاحتلال لتسهيل دخوله وخروجه من الوطن.اذ ممكن شو هو رقمكم الوطني?وجواز سفركم صادر من رام الله ولا غزة?
-يا اخي احنا ما عنا جواز سفر ،عنا وثيقة فلسطينية صادرة من لبنان وانتهت صلاحيتها من عشر سنين.
-يعني انتوا مش مواطنين،انتوا لاجئين من لبنان?
يا اخي احنا فلسطينية وبدي ادفن جوزي في وطنه.
-والله يا اختي المسالة هيك مستحيلة?
-ليش مستحيلة،واحد فلسطيني مات وبدو يندفن في وطنه...وين المستحيل فيها.?
-استغفر الله العظيم،يا اختي انتو لاجئين.
--شو يعني مش فلسطينية،كل شوية بتنطلي وبتقلي لاجئين...يعني احنا لاجئين من الصومال
?-العفو يا ستي ما قصدي اهين حضرتك،بس المسالة مش بايدنا،ودفن زوجك في الوطن مسالة اكبر منا بكتير.
-ما فهمت ليش اكبر منكم بكتير?
-يعني احنا مش فلسطينية?طيب معني كلامك انه السفارة ما الها علاقة فينا?
-يا اختي انتو لاجئين في لبنان ومش مواطنين،والمسؤول عنكم م.ت.ف،اما السلطة فهي مسؤولة بس عن سكان الضفة والقطاع
راح اشرحلك بالتفصيل،احنا هلق عم بنفاوض علي الدولة الفلسطينية ومسالة حل مشكلة اللاجئين من قضايا الحل النهائي اللي ما اجه دورها لسه،لساتنا في المحطة الاولي من المفاوضات اللي اصلا متوقفة عشان الاستيطان.وحتي لو رجعنا للمفاوضات ما راح تكون قضايا الحل النهائي اللي انتو من بينها اول ما راح نتفاوض عليه،وحتي لو كانت في الاول ما بقدر اقلك نتيجة المفاوضات يمكن ترسي علي التعويض او العودة الي اراضي الدولة الفلسطينية او تجنيس اللاجئين في الدول اللي همه فيها،وهادا كله بيحتاج مفاوضات طويلة وما بظن انه جثمان زوجك راح يستني كل هاي المدة.
-والحل يا اخي شو?
-معناها ما في حل قدامك الا تدفنيه في لبنان.هو من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان ومكانه الطبيعي لبنان.
-بس ما النا حدا في لبنان.
والله يا اختي ما فيني اساعدك اكثر من هيك ما ضل الا تدفنيه في اقرب مدينة الكم فيها مقبرة اسلامية.ا
اقفلت سماعة التلفون وهي حزينة،فقد ايقنت الان ان زوجها الذي قتله المنفى حكم عليه ان يبقى فيه الي ان تقوم الساعة.وهكذا سارعت الى اخبار السلطات المعنية باتمام حرق جثمان زوجها وتسليمها رفاته كاملا للاحتفاظ به من اجل ارساله للوطن حالما تسنح الفرصة لذلك.
في الوقت الذي كانت الزوجة تحاول بكل قوتها ارسال جثمان زوجها الى الوطن،كان عزرا يقود سيارته مسرعا لادراك الاجتماع السنوي المكرس للاعلان عن التبرعات المحولة الى اسرائيل،فما زال لديه العديد من التحضيرات قبيل الاحتماع المقرر عقده بعد يومين ،ابتسم وقهقه حين تخيل وحوه الحاضرين وهو يرمي بقنبلته امامهم:سيحول هذا العام عشرة ملايين يورو هي حصيلة ارباح يوم السبت طيلة عام كامل من فروع سوبرماركيتاته التي تجاوز عددها الالفين .كان يود الطيران ليسخر من اطبائه الذين حذروه مطولا من ان قلبه لن يتحمل هذا الاجهاد المتواصل ،وان عليه ان يخضع لعملية زرع قلب والا فان ايامه باتت معدودة.اقترب من هذه القرية البائسة،لا يدر كلما مر بها تذكره بمعسكرات الابادة النازية والتي طالما حدثه اباه عنها .كان طريقه دوما عبر القرية للوصول الى فيلته ،الواقعة على الطرف الاخر من الغابة و طريفها الوحيد هو هذه القرية الرمادية اللون.كانت العديد من الروايات تتناقل حول سكانها وعزلتهم .وعدم ترحيبهم بالاجانب. ورغم انه ينتمي لعائلة تسكن هذه البلاد من مئتين عام تقريبا الا انه كان يشعر دوما انه لا ينتمي الى هذه البلاد وان وطنه هو اسرائيل مع انه لا يعرفها الا من خلال زياراته القصيرة .ومع كل زيارة اليها كان حقده يزداد على هؤلاء الارهابيين الذين ينكرون على الشعب اليهودي العيش بطمأتيتة وامن وسلام.
لقد زاد توجسه من المرور عبر القرية بعد ان علم انها سمحت لعائلة ارهابية بالسكن على اراضيها.
علي مدخل القرية يبدو ان حادثا ما قد وقع،عربات للشرطة والاسعاف والبلدية تقف بهدوء.لايدر لم ازداد تشاؤمه ،خاصة حينما احس فجأة بنخزة حادة اعقبها الم حارق وكأن سكينا اخترقت قلبه.توقف فجأة باحثا عن علبة النتروغلسرين,اللعنة يضعها دوما في سترته,لم يجدها,احس كأن العالم يغيب من امامه.بات امام سيارة الشرطة.داس الفرامل بقوة ووضع يده على الزامور قبل ان يفقد احساسه بما حوله. خرج رجال الشرطة مسرعين فور سماعهم الضجة وصوت ارتطام السيارة بالرصيف.كان عزرا قد غاب عن الوعي،اسرع رجال الاسعاف باجراء تنفس صناعي له وربطه سريعا باجهزة العناية الفائقة.وهكذا تشاء الصدف ان ينقل عزرا وجثمان الميت معا وفي سيارة اسعاف واحدة الى المشفي،احدهم الى غرفة الانعاش والطوارئ والاخر الى المشرحة من اجل نزع اعضائه التي تبرع بها سريعا قبل فوات الاوان.هناك تم استئصال القلب والكليتين والكبد وقرنيتي العين،وبينما كان الاطباء يضعون الاعضاء المتبرع بها في اماكن الحفظ،كان الاطباء في غرفة الانعاش والطوارئ قد حسموا امر تشخيصهم حول حالة عزرا الصحية :لا يمكن ان يعيش دون زرع قلب فوري له،ويجب البحث عن متبرع تلائم انسجته الجينية انسجة عزرا.ارسل الاطباء تقريرهم سريعا الى ادارة المشفى الذين بدورهم ،ولاهمية وضع عزرا الاجتماعي في المنطقة ،قاموا بالاتصال بالمجلس اليهودي والمركز الرئيسي لاستقبال الاعضاء المتبرع بها.
انهى الاطباء حفظ الاعضاء من جثة المتوفي و بعد أن دونوا تقريرا مفصلا عن الزمر النسيجية ويوم التبرع واسم المتبرع وجنسيته تم تحويل الجثة الى مركز الحرق بناء على رغبة المتوفي .تحت اشراف طبي وبحضور مدير الشرطة في القرية ومسؤول البلدي ة .تم حرق الجثة وجمع الرفات،ووضع في صندوق اسود كتب عليه الاسم تمهيدا لتسليمه لعائلته.مع توصية بتقليد المتوفي وسام شكر باسم اهالي الولاية تقديرا لتبرعه باعضائه. وارسل الى مدير المشفى تقريرا فوريا لابلاغ كافة المستشفيات بوجود اعضاء متبرع بها لديهم .لم يصدق مدير المشفي ان الصدفة الربانية قد ساقت قلبا جديدا لعزرا وعلى بعد امتار قليلة منه.وبعد دراسة ملف كل من عزرا والمتبرع ايقن الاطباء ان السماء قد منحت عزرا فرصة من ذهب للحياة مجددا.
كان يمكن ان لا توهب الحياة لعزرا لولا ذلك اللاجئ الفلسطيني المجهول والذي كان عزرا يتمنى ابادته ومحيه مع جميع شعبه من الوجود.استدعي خبراء في زراعة القلب سريعا ولم تمض سوى سويعات قليلة الا وكان عزرا يخضع لعملية زرع قلب جديد.اول ما سأل عنه عزرا حين افاق في غرفة الانعاش اسم المتبرع وجنسيته ومكان سكنه ليشكر عائلته،لكن الطبيب اجابه ان هذه المعلومات غير مسموح باعطائها بناء على وصية المتبرع الذي فضل ان يبقى مجهولا.في الايام الاولى سار كل شيئ على ما يرام،وما ان انتهت فترة العناية المكثفة وسمح له بالمغادرة حتى قفز فرحا ،لقد اشتاق لعمله وفيلته ونشاطه السابق وكان يود معرفة رد فعل الحضور في الاحتفال السنوي على تبرعه الكبير.حين غادر المشفى عائدا الى فيلته مر من القرية مجددا،للمرة الاولى لا يشعر بالانقباض أو الانزعاج الذي ينتابه كلما مر من هنا،والغريب انه طلب من سائقه ان يتوقف امام منزل قصي لاكثر من ربع ساعة دون ان يعلم لم توقف هنا او ماذا يريد. كان شاخصا بنظره صوب المنزل وكأنه ينتظر شخصا ما ان يخرج منه.جتى السائق استغرب تصرف السيد لكنه خشي ان يقول شيئا.
مع كل يوم بدأت تظهر تبدلات على شخصية عزرا في البدء لم يعرها اي اهتمام لكنها استوقفته حينما انتبه الى انه
لم يعد يستسيغ بعضا من المأكولات اليهودية كالبيتشة او الجيكهات او التزيم ،وبات ينفر من الجفيلتي فيش،لعل ما اثار استغرابه، وهو المتدين ،انه طلب من الطباخ طهي اللحم باللبن وهي اكلة محرمة عند اليهود ولا يعلم من اين فكر بها.انتبه بعد عدة اسابيع انه لم يذهب للكنيس منذ خروجه من المشفى.ولم يعدمتحمسا لتلاوة الصلوات او التقيد بشعائر يوم السبت كما كان الامر من قبل.والانكى ان عيدي المظال ويوم الغفران قد مرا ولم يحس بهما لاول مرة في حياته.عادات كثيرة اختلفت عنده ،حتى انتبه الى انه بات يسمع انواعا غريبة من الاغاني لا يفهم كلماتها لكن الحانها تشده.اعتبر الامر في البداية نتيجة منطفية للعمل المتواصل والعملية الجراحية ،لكن الامر تفاقم يوما بعد يوم واصبح مقلقا له مع تزايد ابتعاده عن نشاطات مجلس اليهود في الولاية.كان قد بات يشعر ان في جسده شخصان يتصارعان للاستيلاء عليه،الاول يعرفه وعاش معه منذ ولادته ويدعى عزرا،اما الشخص الاخر فلا يعرف عنه شيئا،الا انه يكره الكثير مما كان يحبه عزرا. لقد بات يحب المرور في تلك القرية،لم يعد يجدها كئيبة او يخاف من مصادفته لتلك العائلة الارهابية.وهاهو يغتنم الفرص للذهاب الى ذلك المنزل المنزوي في اطراف القرية والجلوس امامه فترات طويلة دون ان يعرف لم يفعل هذا.
في تلك الليلة احس ان الامر لم يعد مللا او ضغط عمل،لقد هاتفه صديقه من تل ابيب يطلب منه البدء في حمله اعلامية كبيرة في كل اوروبا للدفاع عن وجهة النظر الاسرائيلية بعد مهاجمة سفن الاغاثة المتوجهة الى غزة.لم يكن قد سمع عن الامر بعد،شاهد نشرات الاخبار من قنوات عدة،مع انه كان فيما مضى لا يستمع الا لتلفزيون اسرائيل.تنازعته ولاول مرة مشاعر متناقضة،في البدء تحمس لما فعله الكوماندورز الاسرائيلي باعتباره دفاعا عن النفس،لكنه في الوقت نفسه احس بالقرف من الهجوم على نشطاء سلام عزل.كأنه لم يكن هو،كان يشعر بالفخر سابقا ،بل والنشوة والقوة ،كلما شاهد دماء اعدائه تسفك وتراق على يد جنود جيش الدفاع، لكنه لم يعد يعلم لم ينتابه الان هذا الشعور بالذنب والعار خاصة عند عرض صور القتلى من الاطفال والنسوة الاغيار او قصف البيوت وتدميرها فوق ساكنيها العزل.
بات دوره في المجلس اليهودي يتراجع،واصبح مضطرا الان ولاول مرة في حياته ان يعيش شعورين في ان واحد،امام اعضاء المجلس اصبح يزدداد تطرفا خوفا من فقدان سيطرته ومع ازدياد قسوته تتزايد الالام التي تصيب قلبه.كثيرا ما اصبح خائفا من انكشاف شعور التضامن الذي ينتابه مع الضحايا العزل من الاغيار كما كان يسميهم،وهو الذي كان يتفاخر في كل مجالسه ان اسمه كفيل بزرع الرعب في اعدائه فهو مشتق من عزرائيل ملك الموت وليس من اي ملاك رحيم.تزايد ما يحس به من صراع مما دفعه الى
مراجعة الجراح الذي اجرى عملية الزرع له.وبدء في تصفح جميع المعلومات المتوفرة في الانترنت حول التبدلات الطارئة على شخصية المرضى بعد زرع قلب لهم.
مقابلة الجراح تركته في حيرة كبيرة خاصة حين اوضح له عدم وجود اي تفسير علمي مؤكد لهذه التغيرلت وان كان يميل الى الرأي القائل بأن سبب هذه التغييرات يعود إلي تجدد حب هؤلاء المرضي للحياة بعدما كانوا علي وشك الموت. كما انه يعتقد كل خلية في جسم الإنسان تحتوي بشكل عام علي مجموعة متكاملة من الصفات الوراثية, وعند نقل عضو من إنسان لآخر تنتقل معه الصفات الوراثية الخاصة بالشخص المتبرع وهذا هو السر في تغيير سلوك وعواطف من تعرضوا لهذه النوعية من الجراحات, وفيما يخص القلب فبالإضافة إلي صفاته الوراثية, فهو يحتوي أيضا علي جزء من ذاكرة الإنسان وهو الجزء الذي له علاقة بذوق وميول وعواطف وأحاسيس صاحبه, وهذه الذاكرة هي سبب التغيرات التي تطرأ علي كل من تجري له عملية زراعة قلب, وتظهر هذه التأثيرات بوضوح إذا كان هناك اختلاف كبير بين ذوق وسلوك المتبرع والشخص الذي تم نقل هذا العضو إليه.
حديث الدكتور جعله اكثر اصرارا على معرفة المتبرع،وحينما لم تفلح محاولاته القانونية في ذلك،لجأ الى السلاح الذي يجيد استعماله،سلاح المال واستغلال نفوذه،وعبرهما فقط استطاع معرفة اسم المتبرع وجنسيته.اصابه الذهول والرعب حينما علم ان جسده يضم قلب عدوه في جنباته،لقد بات دون ان يعلم يحمل بين جنباته داود اليهودي
وجليات الفلسطيني.تمنى لو ان الارض قد بلعته ولم يحدث له هذا.ماذا سيقول الان للمجلس ان انكشف سره وهو سليل عائلة انجبت العشرات من الحاخامات والابطال الذين عملوا دون كلل او ملل لاقامة الدولة والدفاع عنها.
عاد للجراح طلبا للمعونة،فهو لن يستسلم لجليات المختبئ خلسة في جسده.كان جواب الطبيب واضحا :ليس امامك الا ان تتعايش مع التغيرات التي تمر بها أو ان تتغير انت وترضح لهذه التغيرات او تستطيع السيطرة عليها وتذويبه في شخصيتك.واي محاولة منك للسيطرة يجب ان تتم بهدوء وذكاء وبالتدريج.
خرج من زيارة الطبيب وهو مصر على ارضاخ ذلك الغريب المتواجد معه في حسده.لن يسمح لعدوه ان ينتصر عليه ويهزمه.وضع عزرا خطة قوامها استخدام نظام الصدمات المتكررة لتعويد قلبه على الرضوخ .استغرق في نشاطات المجلس وكلما احتاج المجلس لاي نشاط صدامي يكون في مقدمة الصفوف.كل النشاطات المؤيدة لاسرائيل اشترك فيها،ومع انه كان يشعر بالالام لا تطاق في صدره الا انه لم يكن على استعداد للتراجع او التعايش ،لقد اصبح الامر معركة حياة أو موت بالنسبة له.حتى عندما يضعف قليلا أو يحس ان جليات كسب نقاطا ضده كان يقور ويسارع الى استعراض صور المعارك التي شنها جيش الدفاع ضد اعدائه او عمليات القصف لغزة او حصار مبنى المقاطعة.ومع ازدياد قسوته في التعامل مع القلب المزروع كان يفاجئ بان القلب يتمرد عليه ويدخله في ازمات صحية أو غيبوبة تستدعي نقله الى العناية المركزة .
بات متيقنا ان جليات لن يستسلم ،وليس امامه الا ان يتعايش معه او استمرار الصراع بينهما الى الابد .بعد تفكير مطول توصل ان ليس من خيار امامه لاجبار عدوه على التسليم الا اتباع سياسة الارض المحروقة.فقد كان يعلم ان عائلة جليات ورفاته ما زالوا في ذلك المنزل المنزوي والقابع في اطراف تلك القرية.ولهذا قرر ان يحرق المنزل بكل ما فيه من بشر ورفات وذكريات.بهذا وحده يحطم صمود جليات ويجبره على الاستسلام بعد ان نفذت كل الوسائل الاخرى دون جدوى.لن يخبر احدا بما نوى فهي معركته وحده وعليه خوضها الى نهايتها.حدد ليلة 15 ايار موعدا لتنفيذ خطته.فهو يوم ولادة الدولة وسيكون يوم ولادته الثالثة من جديد.وسيهزم جاليت الى الابد.جضر كل شيئ بصمت وفي تلك الليلة كان القمر مختفيا والليل شديد الحلكة.قاد سيارته الى القريه ومنها الى ذلك المنزل المنزوي.اوقف سيارته بعيدا عن المنزل.هبط جاملا غالونا من البنزين،دار حول المنزل.الصمت مدو.الكل نيام.بدأ بسكب البنزين على اطراف المنزل من الخلف.أخرج علبة الثقاب ،ابتسم وقهقه بضحكة مكتومة.لن تمر ثوان الا ويكون كل ما يخص جليات قد بات رمادا منسيا وسينتصر داود من جديد . فتح علبة الثقاب.اخرج عودا وما ان بدأت اصابعه بالاقتراب لاشعاله حتى حدث ما لم يتوقعه،انتفض قلبه بقوة لدرجة اطاحت بعزرا ارضا وقبل ان يتماسك من جديد ويعيد المحاولة انتفض القلب بقوة وتوقف الى الابد.....
الفجر يرسل خيوطه الاولى...في تلك القرية النائية...وخلف ذاك المنزل المنزوي...كان عزرا ممددا جثة هامدة ورائحة البنزين تملأ الجو من حوله.
Keine Kommentare:
Kommentar veröffentlichen