بسطة كتابة إطلالة جادة على المبدعين الشباب الفلسطينيين
معن سمارة يلقي حجراً في المياه الراكدة
عماد أبو حطب (سامر عبدالله)
تميزت "بسطة كتابة" في تتبعها للإبداع الفلسطيني الشاب بمختلف أجناسه الأدبية، فنشرت نصوصاً في الشعر والقصة والرواية لأدباء تنوعت مشاربهم الفكرية والمكانية، ما انعكس على إثراء للمشهد الأدبي الفلسطيني الشاب استطاعت البسطة ومعن أن ينقلها بأمانة كبيرة وبأسلوب جميل شد كل من تتبع البسطة في حلقاتها التسع عشرة. ولعل البعض قد أخذ على البسطة تنوع معروضها وتفاوت مستوى النصوص المقدمة عبرها، والبعض الآخر اتخذ من تفاوت مستوى المواد المعروضة مدخلاً لنقد فكرة البسطة من حيث تقديمها الغث والسمين في طبق واحد وعدم الفصل بينهما. لعل من المفيد هنا مع استعراضي لمجموعة جديدة من النصوص التي عرضتها البسطة الإشارة الى أن جل هذه النصوص هي لأسماء لم تخرج في تجربتها في النشر خارج الإطار المحلي الضيق، ولعلها المرة الأولى التي تحظى بفرصة للاحتكاك الواسع مع جمهور أوسع من جمهور الصحف أو بعض المنابر الالكترونية المحدودة الانتشار الى آفاق أوسع أتاحت لها التفاعل مع شريحة واسعة ومتنوعة ومتوزعة المكان والاتجاهات، وهو ما يسجل لهذه التجربة...ومن يدقق في النصوص الواردة سيتابعها بشغف وسيتعرف على أصوات ربما لم تتح له الفرصة من قبل لمطالعة نصوص لها .
رائد وحش: سخرية النص المؤلمة
حين تقرأ لرائد وحش تقف مطولاً امام نصوصه، فهي بشكل او آخر تجسيد مكثف للحياة، لكنه الجانب المؤلم والساخر والناقد لكل ما تدركه وترصده عين رائد ويعيد رسمها من جديد باسلوبه العفوي والتلقائي في نصوصه. في كل ما يكتبه رائد تجد تجانساً جميلاً من الحب والامل والحياة وجميعها مسكونة بألم خفي تحسه ما بين السطور، في مفرداته التي يحاول ان تكون مازحة احياناً او طريفة...لكنها وبقصد منه تكون مؤلمة وساخرة. في النص المعنون:"سأتزوّج أنجلينا جولي" تتلمس سخريته المقصودة من احلام ابناء جيله او من سبقهم او من سيأتي بعدهم.
ففي هذا النص يكتب بسخرية كبيرة عن وجع الاحلام وعن واقع بائس نجده حولنا اينما تلفتنا.." سأتعلّمُ الإنكليزيّةَ في خمسةِ أيّام
لرسائل الإيميلْ
ومحادثات الماسنجرْ
عن سيناريو فيلم ٍ
من وحي ِ قصّتنا
عن شخصٍ يحبُّ نجمةً
وحين يلتقيها
يتجنّبُ أحاديث المعجبين
ليكون أو ما يقوله
بعد التّحية:
آن الأوان..
كفى انتظاراً..".. وبتهكم كبير يكمل:"أنجلينا.. الحبّ يجعلنا فنانين
هذا الهوس الغامض
كفيلٌ بجعل الحمار يرسم
أو ينهق قصيدةً
وبالنّسبة لي، كحمار على الأقل،
سأحبُّكِ
كما لو أن الحبَّ لم يكن من قبل."..
ومن هذا المدخل يلج بنا وبحنكة واضحة الي لب القصيد:"بقروشي القليلة نقطع تذاكر المترو
وفي منتصف المسافة
أدعوكِ للبحث عن نفقنا
تحتَ الأرض
وبملايينك نشتري لوحاتٍ لإدواردْ هوبرْ
وبيوتاً تكون وقفاً للعشاقْ..
سيّانِ نحنُ
فإذا كنتِ من فئة الأعلى أجراً
محسوبكِ عاشقٌ بلا تسعيرةٍ أو كفالةٍ
في حبٍّ عظيم ".
وبكلمات متقشّفة، غير مبهرجة، بسيطة لكنها حادة كحد السيف تصل السخرية الى مداها الاقصى "عليك اللعنة يا حبيبتي!
منذ أرادتكِ نفسي
وأنتِ، بالنكاية، تتبنّين زنوجاً
وتتركيني أقلّ من يتيم ٍ.
وتتزوّجين، داخل الشّاشة وخارجَهَا،
جاعلةً منّي ديكاً يبيض عزوبيةً."...
في هذا النص يستفيض رائد في تبيان ان احلامنا الموؤودة اسبابها كثيرة:
من وجد امرأته
باكراً
رَفَسَ الدّراسة
وعلّقها شهادةً عليا....ومن تعلّق برفيقةٍ
في الحرب
دشّنته إنساناً بين الأنقاض
تحت قذائف الهاون
حملها عاهة ً دائمة ً....ومن تسلّل من حدود دولة
والتجأ في مواطنة
إلى أن انكشف
وأعادوه على حساب سفارة بلاده
صارتْ تلك جنسيّته"...
هو هنا يتحدث عن احلام ضاعت وطرق خلاص لم يكن مصيرها افضل من الاحلام...ولم ينس في النهاية ان يتحفنا في نهاية امسك فيها بأحرفه وراقص الكلمات وابدع ليقول لنا ما كان سابقاً مكتوباً باحرف بسيطة سترون عكسه تماماً في نص قصير اخاذ لكنه مليء بالصور الرائعة
"مجرّد شخص ما
كمدمنٍ يُحبُّ
وينسى..
أوّلَ الشهرِ
يتصرُّف كمليونيرْ
ثم يقضي المتبقي منه شحاذاً.
يقنع فتاةً أنه تخلّى عن الأكاذيب
فقط ليتأكد
أن لياقة كذبه على ما يرام.
يبذّر اليأس
بسعادة متوحشةٍ.
يخرج من البيت
ومعه ما يلزم
وكأنه لن يعود..
مسكونٌ بالغجر
وحكمتُهُ:
الرّقص على كل شيءْ
الرقص كل ّشيءْ.
لا يبالي..
يعيش كشخصية ٍ متخيّلةٍ
في بال كاتب
لا يفعل سوى انتظار نص حياته."
ما اورده معن في بسطته عن رائد يدفعك لمزيد من البحث عن كتاباته، وستفاجأ انك كلما وجدت نصا جديدا له ستحب نصه وتتعلق بكتاباته دون ان تحس وتدرك..وستتحول الى مدمن لنصوص هذا الوحش الجميل...
وفاء كبها تجاوز لتابوهات الحياة اللامقدسة
في نصوص وفاء كبها تجد كماً كبيراً من المشاعر المتدفقة.. سيل مكتوب بلغة جميلة لكنه في الوقت نفسه يحمل بذور ثورة على ما هو سائد سواء في المشاعر ام في المجتمع المحيط بنا..صور قاسية في بعضها:"ستجعل منك الموسيقى ميتاً أو مقتولاً...كثرة الوجوه أو قلتها لا تعني الكثير". وتتوارد صور وفاء التي يجمعها شعور واحد:الوحدة والالم معا "كثرة الوجوه أو قلتها لا تعني الكثير....الذكريات تجيء، تجيء ولا تؤذي!.." ويبدو ان الجامع الاكبر لنصها الاول هو البحث عن الحب الذي ينهي هذه الوحدة المتغلغلة في الروح...وابقاء امل في تغيير قادم غير محدد المعالم؛ "اجعل الرسائل لا تنفكُ تذهب منك حتى تعود إليك، مُحملّة بالأمل، بالأمل!"..
في نصها الثاني "للزنبق أوان لا يشبهني" تعلو احرف التمرد عند وفاء وتظهر معركتها المختبئة مع تابوهات متعددة: "سيكفر بما تبقّى من عقائد دنيوية أو دينية ويؤمن أن لا اثنين خارج هذه السماء إلا هو ومن يراها في المرآة."..إلها واحداً سيكون له عمّا قريب .. هو ذاته الذي سيضع له العطر وينظر إليه في المرآة .. يقلبه بين يديه ثم يقبّل جبينه والفرح !...ولعلها تكون واضحة جدا في تتبعها لاختلاف المشاعر بين الرجل والانثى الشرقيين، فهي "ستعّد للمطر سفينةً وشراعاً من ألوان زاخمة" اما هو "يبقى هو كعادته منذ سنين معلقاً بين فصلين لا يعرف غيرهما .. وبين ارض وسماء قد حاول خلق غيرهما لرائحة النسرين خاصته .. !" في نصوص وفاء تجد حنيناً كبيرا..وحباً دافئا وتجد تمردا واضحا لا ينتهي..احرفها جميلة ومعبرة وراصدة بدقة لما يختلج في صدر انثى تحلم بتغيير يشمل كل شيء بما فيه اساليب الحب المترددة..."حين انتهت الأيام الفضيلة التي مازالت أمي تتحدث عنها .. عاود الآخرون احتساء النبيذ "قليل الحياء" خاصتهم.
وحين تسألني لماذا نبيذك قليل الحياء لن أعطيك إجابة تتوغل فيك. سأقول لك ان نبيذك قليل حياء بدوني وبدون بقايا خطواتي على الشارع ذاته هناك.."
ولعل نصها ما بين الاسود والاسود جاء خلابا في صوره ودقة مشاعرهما بين الأسود والأسود ضاعت الأمور. أنا أتذكر أن الأسود لونُ يشكل كل شيء من حوله ويشكّلني .. ويراقصني ويدغدغ فترات المراهقة المتتابعة لدّي.....سيأتي مقيتاً ووحيداً هذا المساء ويحكي لي فقط عن اشياء رمادية او بنفسجية أو اشياء تشبه الواناً أخرى قد يكون إحداها غيوراً ويدمر بعضاً من كينونتي بكمشة تراب لا تشبه وجه ذاك الصعلوك "رأفت" إنما تشبه تراباً لا يعرفه سواي وسواه."...
من يقرأ وفاء لن ينسى ما قرأه من نصوص لها فهي ستلاصق روحه لفترة طويلة...شاء ام أبى
اسماء شاكر: دهشة الخيال وحلاوة التفاصيل
عندما تقرأ نصاً لأسماء شاكر ينتابك شعور كبير منذ اللحظة الاولى ان النصوص التي ترتشفها لا يمكن ان تكون لشاعرة شابة، فهنا تجد تكنيكاً مختلفاً في بناء النص، احرفاً تعرف صاحبتها ما تريد منها، اختزال في الكلمات لكنه اختزال مدهش مكثف لا تبذير فيه ولا بهرجة وفي الوقت نفسه تراه مليئا بالصور والتفاصيل الجميلة.
في "تعويذةُ الذهَبِ الأبيضْ" ترسم أسماء وعبر صور متلاحقة نصا يتعبك من ملاحقته والتركيز عليه حتى لا تفلت منك صورها الاسرة والتي تفوح منها رائحة حكاية جميلة وحزينة في آن واحد، وبكلمات قليلة تجعلك تعيش ما كتبته، وتترك الخيال للانطلاق لاقصى مدى مستمتعا بصورها ..
"يَرشَحُني عَرَقٌ بارِدٌ .. دونَ رَائِحة، يُهَدهِدُني الأَرَق، يُخَلْخِلُ الليلَ فيَّ كقِماَشة على حَبلِ رِيح ٍ صَعبة الـمِراس.
يَبتلُ شَعرِي القَتيِلُ بِوسَادَةِ مِلح، أبْتَلُ بفَرَاشةٍ مَوشومَةُ الظِلِ... تغوِي ضُوءاً أعمي فَقَد انعِكاس الـمَرايا."
وحين تكمل النص متتبعا كيف تتلاعب بالوقت وتساقطه تم تكسره دون دوي وتحاول ان لا تشرد بعيدا في خيالك فالليل تيبس والكوابيس استيقظت، صور متلاحقة سريعة في تواردها كأنك تطالع فيلما سينمائيا لا تود ان يفوتك تفصيل من تفاصيل الصورة :"يتسَاقَطُ الوَقتُ بِثمالة، يَتكَسرُ على حَوافِ انهِيَاراتٍ صَغيرة، كخَريف، كَخِفَّة ... كَعُمق ٍلا كُّنَه له.
يَسقط ُ دُون دَويّ ...
وُدونَ ُسقوطٍ أَجِدُني مَصلُوبَة علي سَريرٍ من وَحشَة، يَهُزُّ النَبضَ، يُوقِظُ الكابُوسَ في صَحويّ الرَخو، فأرتجِف.
يَتيبسُ الليلُ، يَعلقُ كغيمةٍ خشنة فوق نافذة... كانت تُصلي للنوم، وللـمَناماتِ البعيدة، وتغفو.
يَتقّرحُ السهر في عينيّ، يُحدقُ بصمتٍ ذاهل قتامة َالفراغ ِ ... ظِلُها النزِقُ الذي يتهدلُ السقفَ بعناد، مُتهدِّجاً كخفق ٍ بعيد، مُعبأً بالسرابِ ككائن ٍ خرافي.
كانتْ تَدورُ في طقس ٍ راقص، يُشبه الانتحارَ على شَمعةٍ مطفأة بالانتظار ... تلـملـمُ نزف غيابها، تنحسرُ في جهةِ الضوء وفي ظل الحكاياتِ الـملونة... تخفتُ كلـما انتفضَ تَوقُّدٌ أزرق، مخدراً بستارة الهواء التَعِب.
كانتْ ترْزَحُ كُحلاً رَطِباً يُشبِهُ البُكاء / تصلِبُ جناحَيها بِكبرياءٍ قديم / تتجمدُ على عُنُقي كموتٍ رُخامي... كتعويذةٍ ... من ذهَبٍ أبيض."
في نصها المعنون "حرب ...من الجهات الأربع." تبحر مع أسماء
في يومياتها تعيش الحروب دون ان تكون موجودا بها، وتنقلك في تفاصيلها المعاشة ولكن بلغة جميلة، تسمع الانفجار وتتلمس الشظايا وتناثر الزجاج وتشم رائحة الدخان وتلسعك النيران...كل هذه التفاصيل تصوغها اسماء بدقة، وتجعلك تعايشها، ولعل ذروة الالم والوحدة تجسدها في ما كتبته:"(الجيش الإسرائيلي يعلن عن بدء العملية البرية في القطاع)
أحرك السكر في كوب الشاي... أحركه ولا يذوب، يضيء ذاك الجهاز...
تصلني رسالة على عجل: "أدعو للـمقاومين، إخوتي خمسة راحوا... هناك".
يبرد الشاي ، تدور الزنانة... شريط الأخبار يدور، يقول الـمراسل:
"يبدو أن الأيام القليلة القادمة ستكون أسوأ من ...".
لتنهي نصها بصورة واقعية جميلة:"ضجيج الصبية يلعبون في الحارة، كان أحدهم يجمع الأوراق الـمتساقطة بفضول، يشكها بخيط، ويركض منتعلا الأرض... يصيح : "مناشير .. مناشير للبيع".
يتبعه بقية الأولاد، يخطفونها من يده، يمزقونها... ويضحكون."
نصوص أسماء الاخرى "غَيمة قَرِيبَة.."،"الطِفْلةُ... الثَلج"، تشير الى امتلاكها ادواتها بشكل مميز وواضح، الامر الذي يضيء ويشير الى وجود شاعرة سنسمع باسمها كثيرا رغم انها عمليا تنتمي الى الشعراء الشباب الا انها واقعيا ستزاحم الكبار بعد فترة وجيزة.
شادي أبو جراد: قلق الاسئلة والحياة
نصوص شادي أبو جراد قصيرة اشبه بالبرقيات او رسائل الماسينجر، هو يلجأ لتكثيف فكرته، لا يطيل الشرح ولا يتلاعب بالاحرف والكلمات، يعرف ما يريد من نصه القصير، يكتب بتلقائية واضحة، لكن كتاباته تغوص في الاعماق لتطرح اسئلة وقلقاً نمر به جميعا.
في نصه "الغريب قبل الجمعة" واختيار العنوان له دلالاته يكثف شادي كلماته ليخبرنا بان الذاكرة لا تشيخ وأن القلق سمتنا الابدية حتى وان كان ليلة الراحة/الجمعة:"بين الخميس والجمعة
ثمة غريب
لـم يتعلـم النسيان،
لا سيما أنه يمارس التخييم
منذ الولادة...
وبين الخميس والجمعة أيضاً
يخرج الغريب
مثل أرنب الساحر
بأذنين من قلق !!"
في نصي "جمهور" و "إجازة" يعلو الاحساس بالوحدة ولعل الألم هنا اوضح :
"وحده البعوض
يدرك موت البطل
في النهاية !!"... او في "الصفحة تبدو
أكثر بياضاً
ربما،
لأنّ غداً إجازتها الأسبوعية !!"...
في نصوص شادي تجد تفاصيل كثيرة وصوراً متناثرة يجمعها بهدوء ملحوظ ويركب منها مشهده الشعري:
"إلى حتفي
ألف روحي بورق السوليفان
كي تصلك أكثر لذة...
أظنني لـم أدرك موتي
على عتبات مائك !!
إذا...
سأحاول اقتفاء الحصى في درب الأقحوان
فارّاً من جناح قبّرة..."
في نصه حول بطاقة اليانصيب ابدع في ايصال فكره الحلم المستحيل المبعثر والمجهض لالف سبب وسبب:
"كل ما تمنيت في عام مضى
أودعته بطاقة يانصيب
خلّفتها في حضن إحداهن
فِ العام الذي مضى...
أخبرتني للتو
أن بطاقتي لـم تربح...
كل ما تمنيت في عام مضى
أجهضته إحداهن على رصيف...".
ولعل رسالته القصيرة عن ذلك المسؤول بالغة الدلالة ولا تحتاج لتعليق اكثر من قول انها بدقة تجعلك ترى مدى البعد بين المسؤول ورعيته:"
غداً في تمام التاسعة
ستسير إلى رام الله ..
هذا فقط ما ألقاه في أذني
مسؤول أكبر شأناً
وغاب عبر ترددات لاسلكية ...
منذ التاسعة تماماً أفكر...
ما الذي سيدعوني للذهاب في وجهة مجهولة
وان كان صوت مسؤول أكبر شأناً ؟؟!!".
اختيارات موفقة فقد جعلتنا نطل على تجربته الشعرية عن قرب ونحرص على تتبعها الى ما لا نهاية:"في تراتب لا متناه
إلى حتفي تسير بي الحياة ..."
سامية مصطفى عيّاش: من الغربة تطرق ابواب الوطن
قد يكون اختيار معن لفصل من رواية وليس احدى قصص سامية مصطفى عيّاش مخاطرة كبيرة، خاصة اننا في العموم نفضل ان نقرأ رواية كاملة وليس فصلا يتيما منها قد لا تسنح الفرصة للكثيرين منا اكمال بقية فصولها، وظننت ان معن قد خانه الذكاء في هذه المرة وانه كان ينبغي اختيار نصوص اخرى لسامية خاصة انها تكتب في اكثر من جنس ادبي، حين قر أت الحلقة اخذت بجمال النثر المدون وكأنني اقرأ قصيدة وليس فصلاً من رواية، وظننت انني اعجبت بما خطته سامية لانحيازي الفطري لادب الرواية، ولكنني عندما تابعت ما دونه مجموع الاصدقاء حول الفصل الاول، رفعت الراية وقلت في سري كسب الرهان معن من جديد واقحم الجميع في تتبع موهبة كبيرة في عالم السرد.
سامية في فصلها الاول رسمت الوطن بريشة الفنان، بتفاصيل دقيقة ومنمنمات فسيفسائية عملت على جمعها بتأن وجلد تحسد عليه مدخل الفصل ووصف الطريق مبهر "شاخ الطريق..تلعثم بذاته...شعرتِ بأنفاسه تلهث كحمار محموم، وبترهل جلده المتلوّن ..." وبحنكة تربط الطريق بذكرى والدها "كم من الأسلاك الشائكة بعدت بينكما يومها؟ أما نسيتِ بعد طعم الدمع المالح الذي ذرفتِه؟
كنتِ صغيرة حينها فكيف لذاكرتكِ أن تختزل حقدا كهذا....لماذا كبر معكِ هذا الحقد؟". ومن هذا المدخل نلج معها في الحكاية المختصرة بكلمتين "كبرتِ وأنتِ تلعبين مع الصبية "عرب ويهود"، وتبدأ سامية في غزل روايتها عبر انعاش الذاكرة المزدحمة بتفاصيل كثيرة تتابعها بنهم، فهي ترسم الوطن بخطوط صغيرة تجمعها وتبنيها لتشكل منها لوحتها المؤلمة. لغة سامية وان تميزت بالرقة والحس العالي الا انها حملت معها عبر الذكريات مخزونا كبيرا من الالم ان لم نقل الحقد على ما آلت اليه الامور على الارض في الوطن..تلمس الاسلاك الشائكة هنا وتتعرض للاهانة على يد الحاجز الاسرائيلي وتعيش الحصار والاعتناق والسعي لامتلاك فسحة من المكان لاعادة تجميع الذات والتنفس من جديد..." لحدود "الإسرائيلية" تبدأ بعلم يحوي نجمة زرقاء سداسية، فلماذا تحوّطين صدرك بخريطة فلسطينية مثلثة القوام؟
لماذا يكذب عليكِ سائق الحافلة العجوز وهو يقول: دخلنا المنطقة الفلسطينية؟
أحقاً فعلنا؟"...
الفصل مليء بالاسئلة المدوية والتي لاتجيب سامية عنها مباشرة لكنها تقودك للاجابة بسلاسة عبر سطور ما دونته:"أين يكمن جرحك يا حنان؟ في سميح أم في نفسكِ أم في الغربة أم في الوحدة أم في الاحتلال؟".
تداعيات المكان والذكرى تتجول بين السطور كالاشباح تلمسها في كل مكان وتشم رائحتها في زوايا السطور"وما أتذكره... مشهدي هنا تتأرجح فيه مشاهد عمر، انقضى أكثره في محاولة الوصول إلى هنا.
ها أنا أقطع نهر الأردن، أسمع طقطقة الخشب تحت قدميّ، على كتفي الأيسر حقيبة صغيرة، أمشي باتجاه الغرب مشية عادية، مشية تبدو عادية، ورائي العالم، وأمامي عالمي.
آخر ما أتذكره من هذا الجسر أنني عبرته في طريقي من رام الله إلى عمّان قبل ثلاثين سنة..."
عندما جاء والدكِ يحمل الرواية ناداكِ، وقال: اقرأ.
ضحكتِ وقلتِ: لِم لا تؤنثني يا أبي؟
أجابكِ ببسمة: " اقرأ باسم ربك الذي خلق"
بسملتِ وقرأتِ.
كنتِ تقرئين له، وحين يغفو، تنسحبين لغرفتكِ وتأكلينها. يناديكِ فتعاودين صفحاتها معه حتى انتهت. وقتها سألكِ: هل انتهت حقا؟ وصمتِّ.
حكى يومها أن العمر سينتهي والحكاية تنتظر التتمة.
أن البلاد تذهب، والكذب يزيد."
ما اوجع المقطع الذي تحدث عن عودة الاب من سجنه، كانها تتحدث عن ميلاد شعب كامل خارج من جوف الوحش "حين عاد من السجن عرفتِ كيف يبدو الحزن أكبر من محض أسئلة تطير من العيون.
ما الذي كان لديك لتقولينه للعائد الغريب هذا؟ شعرتِ أنه كان غريبا، فازداد حقدك. سُجن عمر ثم جاء، فكيف له أن يصبح أباكِ فجأة؟
الأمر استعصى على عقلك الصغير.
قالت أمكِ: والدكِ مثل جدة ليلى التي أكلها الذئب، أبوكِ خرج من بطنه لا أكثر..
من بطن الذئب خرج!
بدون تعقيد بدت الفكرة مدهشةً لتقبُّل وجود الغريب على الأقل. لكنك بقيتِ تجفلين منه. وتتخفّين من نظراته تجاهك".
للاسف لم استطع اكمال قراءة الرواية، رغم تلهفي الكبير لرؤية مسارات التداعيات والذكريات كما خطتها سامية بموهبة تبشر بتثبيت اقدام راوية حقيقية تمتلك من الموهبة والمخزون اللغوي والتقنية ما يجعلها ان اكملت من الروائيين/ئيات البارزات في سماء الثقافة والابداع..." عندما قرأتِ السطر الأخير ظننت أن الأدب يحسن الخيال، لا أكثر!
لكنك اليوم أدركتِ أي وجع هذا الذي أخذنا على حفر الجراح دون دموع. وما معنى أن نقترب ولا نفعل ذلك حقيقة..!
ما معنى أن نكون قرب سويعات ونصبح قرب أيام فجأة!
ما معنى أن تنام الحكايات والأحلام هناك، عند الضفة الأخرى دون أن تجرؤ على القفز!
هم كـ سميح، وخالتكِ، وأعمامك، وأبناؤهم. كلما سئلوا عن أنفسهم أشاروا للتاريخ وللجسر: نحن من أرض الـ 67، هناك، بعد جسر الأردن تماماً!
أنت أيضاً، كالبرغوثي، لم تقولي للجسر شكراً..!
ولن تقولي"..
طارق العربي :متعة النص الجميل
في نصوص طارق العربي لا تجد نفسك امام تجربة شاعر شاب، بل تواجه نصاً مكتمل البناء، تمت صياغته بحرفية عالية وكأن صاحبه يكتب القصيدة كما يتنفس الهواء، في نصوص طارق تأخذك اللغة والصورة المتعددة المستويات في كتاباتها، فتراه احيانا يلجأ للمباشرة مستخدما لغة بسيطة تعبر عن اللحظة والحياة وتعيش معه انفعالاته الصادقة في اكتشاف الحب والحياة، يكتب للحبيبة الحلم كما يكتب للاطفال والوطن بشفافية كبيرة، وفي نصوص اخرى يدخلك طارق متاهة المثيولوجيا والتاريخ ويغرف منها بحرفية واضحة..
في نص "هرمجدون" تجد نفسك امام النموذج الثاني في كتابة النص...تدفق صور متتابعة مربوطة باتقان...لا تقدر ان تفككها او تقطع اندماجك معها الى النهاية، هنا تدخل تفاصيل الوطن من زاوية الراوي ويبلور لنا خطوطا دقيقة حساسة تعبر عن الم الوطن في كل دقيقة..هنا نشهد لحظات ميلاد وخوف وشهقات جزع والم
"لاشيء يقلق ليلي / ولدُت أحملُ العَدَم
وأَذهبُ مع العَدمِ / ولدت هكذا
من دمع سُنبلتَينِ ذَابِلتينِ خَائَفِتَينِ على حَدِ
السيفِ"...
"وكنتُ أَخَافُ من الجُنود عَلى أبِي
ألا يَعودَ آخِر الليَل حَامِلاً مشمش الأرض / أو أن أموت فجأةً
أن أنام ولا أصحو مثلاً، أو بخطأ الرصاص وأنا أعبر الشارع
إلى الرصيف الُمقَابل / أو أمرض باللوكيميا وأموت /"...
ومن هذه المحاكاة الجميلة والمؤلمة لواقع يومي معاش يبلور طارق كلمات بليغة لكنها مصاغة بجمالية عالية ما يريد ايصاله لنا عن ان كتابته للقصيدة هي الرابط الوحيد ما بينه وبين الحياة "لا فرق بين أن أموت وأحيا ... إلا هَذهِ القَصِيدة"...ولا ينسى ان يدخلنا في عدل طويل وممتع من يكتب من القصيدة تكتب الشاعر ام الشاعر يكتب القصيدة:
هرمجدون/ مَن يَكتُب مَن... أتَكتبنِي القَصِيدة أم الحَرب
تكتبني وتَكتُبهَا وتكتب لنا القَدَر/ القدرُ هو أن
التقي بِسيدةٍ جَميلة تحت المَطر
أو بِشاعِرة تُضيفُ للقَصيِدة فَرحَاً أخضر
وعُشبَا أَخضَر.. أخضر أخضر
من يكتب من / سَرقنَا كُل مَا تَبقَى في الجرار
من عِنبٍ .. سَرقنَا كُلَّ مَا تَبقَى فِي القَوامِيس
مِن لُغةٍ .. وذَهبنا إلى المَعركة بحَثَاً عَن الذهب
بحثا عن مجدٍ كتبه التاريخ للمنتصر!"...وعبر صور متلاحقة يدخل مجدداً في اتون فلسفة شعرية حول ماهية القصيدة:
"تكتبني وتَكتُبهَا وتكتب لنا القَدَر/ القدرُ هو أن
التقي بِسيدةٍ جَميلة تحت المَطر
أو بِشاعِرة تُضيفُ للقَصيِدة فَرحَاً أخضر
وعُشبَا أَخضَر.. أخضر أخضر
من يكتب من / سَرقنَا كُل مَا تَبقَى في الجرار
من عِنبٍ .. سَرقنَا كُلَّ مَا تَبقَى فِي القَوامِيس
مِن لُغةٍ .. وذَهبنا إلى المَعركة بحثاً عَن الذهب
بحثا عن مجدٍ كتبه التاريخ للمنتصر!
خاتمة القصيدة متعبة وموغلة في الحلم ولكنها تحمل الما لا يطاق:
"هرمجدون /لا شأن لِي فِي الحَربِ /
ولا شأَنَ لك بِي ..أُريد أَن اربح مَزيداً مِن الوقَتِ
لاحيا / لأرى طفلي يَذهب إِلى صَفهِ الأول فَقط صَفهُ الأول
حُراً ويُغنِي للعلمِ /أن أَترك وردةً عَلى الرَصيف من أَثرِي
ليَمُر المُشاة آَمنِين مِن بَعدِي / أريدُ أن اربح مزيدا من الوقت لأحب
دُون تخطِيطٍ مُسبق ... ودون تهيؤ العاطفة لِشيء ما يُسمَى الحُب".
نصوص طارق الاخرى "زنبق كافر...""المقهى نهار الجمعة"..اتت كنصوص قصيرة تحمل صورا جميلة شاعرية تحلق معها بعيدا رغم محاولته للجوء للترميز احيانا والمباشرة في احيان اخرى
"الزنبقة أخت الياسمينة
التيِ اقتلعَها الجُنود
من بيتنا..!"...او "
الحبُّ الأول
يُشبه حَليب أُمي
لا أذكر مَذاقَهُ
لكني أَحمِلهُ
بِكُلِّي"...
"في المَقَهى
نَهار الجُمعة
للمكان عَتمةُ القبور
وضوضاء اللون الأحَمر
قبيل مبُاريَات الدَوري
الاسبانِي...!"...نصوص طارق هي نصوص الغواية الشعرية المكتملة جمالا والتي تدفعك للوقوع في شرك عشق احرفه.
كاتب فلسطيني يقيم في ألمانيا
تاريخ نشر المقال 27 تموز 2010