نبوءة/قصة قصيرة
من سامر عبدالله في 06 يوليو، 2010، الساعة 07:39 مساءً
نبوءة/قصة قصيرة
منذ ان كنت طفلا،كانت قصص الجن والأرواح و السحر والسحرة تثير فضولي،لا بل تشدني اليها لدرجة أنني كنت أتسمر أمام الراوي كقطعة خشب متيبسة،لا أتزحزح من مكاني .وكان أهلي يعرفون نوع القصة المروية من مجرد النظر الى ملامحي.لهذا كنت كل مساء مادة التندرالأساسية بين أفراد العائلة،مما أدى الى عزلتي أكثر فأكثر وغوصي في عالم القصص والروايات خاصة التي تتعلق بالغيبيات والسحرة.وأذكر أن جدتي ،وهي الراوية الأساسية في الأسرة،كانت في أحيان كثيرة توقف سرد الحكاية بعد ان تنتبه الى ما يطرأ على شكلي من تبدلات،حيث يصفر وجهي ويقف شعر رأسي القصير،وأتكوم في جلستي على الأرض،طامرا رأسي بين فخذيي،واضعا يديي فوق رأسي،وفي الوقت ذاته يبدأ جسدي بالانتفاض شيئا فشيئا،وحينما تصل جدتي الى ذروة الحكاية المرعبة،اشهق وأصرخ بكل قوتي.ودعوني أسر لكم سرا،في أحيان كثيرة كانت تفلت مني بعض نقاط البول من شدة الخوف.أقسم بالله انها لم تكن سوى بعض قطرات فقط...ليس أكثر.
وفي معظم الأوقات كنت أنظر الى جدتي بخوف ووجل.جدتي لأمي تلك لم تكن عربية الأصل.كانت رغم قصرها الواضح ناعمة جميلة،لدرجة أنني في أحيان كثيرة كنت أمازحها مناديا اياها "نص نصيص"،فكانت تستشيط غضبا وتتوعدني بالانتقام ليلا حين تسرد حكاياتها.الا أنها سريعا ما تنسى الأمر كله.وجدتي تلك كان لها شعرا ناعما طويلا يصل الى الأرض حينما تقف ناهضة.لهذا حينما كانت تروي لنا قصص السحركان من السهل علي أن أتخيل العديد من الأمور، في أحيان ،كنت ،والله، أرى ثعابينا كثيرة تخرج من ثنيات شعرها الناعم الطويل ،أو أرى أشياء غريبة تخرج من فمها،واذا رفعت يدها كنت أحس بريح عاصفة تصدر منها وتلقيني أرضا.
في تلك الأيام،كانت العائلة كلها تسكن في بيت صغير،أعمامي وزوجاتهم وأولادهم،وجداي وجدتاي،وعمتي العزباء،ونحن.كانت تلك الجدة تنام مع جدي في السقيفة،وهي غرفة صغيرة منخفضة السقف تقبع فوق المطبخ،وللوصول اليها كان لا بد ان تمر بممر قصير ضيق منخفض السقف،بعد ذلك يجب ان ترتقي سلما خشبيا مهترئا كلما تسلقت درجة منه يصدر صريرا عاليا مزعجا. كل أطفال العائلة كانوا يتسابقون الى النوم بين أحضان جدتي ويجدون متعة كبيرة في الصعود الى السقيفة،الا أنا،فقد كنت أخاف الصعود وحيدا الى السقيفة، خاصة حينما تناديني جدتي لأحضر لها الماء بعد انتهائها من رواية حكاياتها الليلية، كنت أجتاز الممر الضيق بسرعة البرق،خائفا من ظهور "عزرائيل" لي على حين غرة،وفي أحيان كثيرة أحسست بوجود "ناكر" في أول الممر أما "نكير" فقد كنت أراه ينتظرني في نهايته، كنت أشم رائحة رطوبة هذا الممر،وأحس ببرودته التي تشبه القبر،أما السلم فمع كل درجة أجتازها لم أكن أسمع سوى النواح والعويل،أو أتخيل عفريتا قد قفز من هنا أو جنيا يتنطط هناك.
بقيت حكايات جدتي محفورة في ذاكرتي حتى الأن،وبات أي ذكر للسحروالتنجيم يشدني،فقد بت أحفظ أسماء الجان،بل وفي أحيان كثيرة كنت ألقب كل صديق لي بأحد أحد أسماء الجن،هذا أسميه شمهروش وذاك أبانوخ أو حييائيل،وكلما عرفت اسما جديدا كنت أدونه على دفتر صغير أخبئه بين ثيابي،حتى امتلأ الدفتر بأسماء مثل ريحان،ساهف،داقف،صهيائيل،كهيال،ظام،شعضوض،زنقط،عزازير،ساروخ،دنهش............وحرصت دوما على تغيير مكان اخفاء الدفتر،الى أن أكتشف مخبأه عمي فكان ذلك أخر عهدي به،ولم يقتصر الأمر على حرقه، بل نلت علقة ساخنة ما زلت أحس بأثارها على قفاي حتى الأن.رغم ذلك لم اتب عن الأهتمام بهذا الموضوع،انما نقلت شغفي هذا الى خارج المنزل،وبات كل جديد أتعلمه عن فك طلاسم وأنواع السحر أحاول تطبيقه على أصحابي ،الذين أصبحوا فئران تجارب لكل أنواع السحر التي أقرأ عنها مثل سحر التفريق أو الجوارح او الخوف أوالوقف....لكن كل هذه التجارب كانت تفشل فشلا ذريعا،ويخرج أصحابي من سحري هازئين شامتين بي،وبدلا من أن يهابوني لقوة سحري باتوا ينعتوني ب"السويحر الفاشل"،وكثيرا ما كنت أعود الي المنزل معفرا وممزق الثياب،واذا ما سألتني أمي من فعل بي هذا؟كنت أجيب تارة"طلمش"وتارة أخرى"ميمون"،وينتهي الامر كالعادة بعلقة جديدة.
وما أثار استغرابي في ذلك الوقت أن بعض أقراني بدأوا يتغيرون شيئا فشيئا،خاصة الأكثر فقرا بيننا،لم يعودوا يخالطون أمثالي،وباتوا يقضون جل أوقاتهم في المسجد أو حلقات الدرس الدينية التي يشرف عليها شيخ لم أكن أعرف سوى لقبه"الشيخ الناهي عن المنكر"،وهكذا بدء أصدقائي يختفون من حياتي ويظهرون في حياة اخرين بأشكال وسلوكيات جديدة وغريبة لم أفهمها يوما،البعض الأخر، بدأ يظهر اهتماما بأمور السياسة،ويعقد حلقات مفتوحة للنقاش والجدل ،كثيرا ما تنتهي بالعراك وتبادل اللكمات. تحول العديد من هؤلاء فيما بعد الى نشطاءفي أحزاب مختلفة.
و كثيرا ما كان يستفزني أي ذكر للسحر، ويدفعني الفضول الى خوض غمار أي حديث يتصل به،وكلما تتأزم أموري وتوصد الأبواب أمامي وتتوالى المصائب فوق رأسى كنت أتمنى،كغيري من البشر، لو ألتق بعراف يقرأ لي طالعي، لعله يعرف متى يأتيني الفرج،لهذا حينما سافرت الى السودان في عمل ما،وجدتني ولأول مرة في حياتي ،أقف في مواجهة منجم أو قارىء للغيب.
بدأ الأمر صدفة،ففي الفندق التقيت صديقا قديما لم أره منذ أعوام عدة،الا أنني سرعان ما تذكرت أنه كان من الأصدقاء الذين أبدوا اهتماما مبكرا بامور السياسة والأحزاب فانخرط فيها حتى لمع وبات يشار له بالبنان،وفي انتقالنا من حديث لأخر، عرفت أنه بات طبيبا نفسيا ماهرا مشهورا ،وأنه يحضر مؤتمرا طبيا في الخرطوم. وكنت أعرف ولعه بالامورالغيبية منذ ان كان طالبا في كلية الطب،الا أن المفاجأة كانت أنه أخبرني بموعد يرتب له للاجتماع مع أشهر عرافي الخرطوم ويدعى الشيخ "كافي الحاجة السوسي"،له أتباع ومريدين في كافة أنحاء البلاد،وعندما سألني ان كنت أرغب بمرافقته،
عقدت المفاجئة لساني،فلم أجبه،وعرفت أن الموعد لن يكون قبل منتصف الليل.الحقيقة أن الفضول استبد بي،وقررت خوض المغامرة الى نهايتها،لعل" السوسي" يخبرني متى تنتهي أيامي السوداء،وقد احترت في سبب طلب صاحبي مقابلة الشيخ،الا أنني ،وكعادتي التي لا أتخلى عنها، بدلا من سؤاله ، بدأت في مناكفته ،فحينا أقول له:"ماذا ستفعل ان انتصر عليك الشيخ،هل سترفع الراية البيضاء ؟".أو أمازحه قائلا:"أين ذهب علمك،هل طار في الهوا شاشي؟"وبقيت هكذا حتى استشاط غضبا، حاولت أن أفهم منه ماالذي يرتجيه من هذا اللقاء،فرفض الاجابة وباصرار.
في الليلة الموعودة،دلف الى الفندق الدليل الذي سيرافقنا الى العراف ،رجل أسواد كسواد الليل المعتم، طويل القامة، ملتحي،يرتدي جلبابا ابيضا ناصعا كالثلج،ويعتمر عمامة بيضاء ملتفة على رأسه بشكل بيضاوي.لفت نظري رأسه الضخمة كالخرتيت،على كل وجنة بضعة خطوط متساوية العدد، تمت بواسطة موس على ما يبدو،كما انتبهت الى أنه يملك قدميين ضخمتين ،لم أر بضخامتهما قط في حياتي.توجه الينا الرجل مباشرة محييا على الطريقة السودانية بالاحضان والتربيت على الأكتاف والقول:"كيفكم يا زول؟"،بادرنا بالسؤال :"ان كنا جاهزين للمسير"؟ ،أجبناه أيجابا،فقال:"توكلنا على واحد أحد".
خرجنا من الفندق،دون أن نعرف بأي اتجاه نسير،دليلنا صامت صمت القبور،فالكلام ليلا" يزعج الأسياد" كما قال.وسيلة التفاهم بيننا باتت الاشارة،لكننا فهمنا منه أن المكان المقصود ليس بعيدا.ابتعدنا عن الفندق بعض الشيىء،قبل أن ينعطف بنا في طريق ترابي ،هنا بات الرجل يجد في السير سريعا ويحثنا على الاسراع،لقد خيل لي عندئذ أنه لم يكن يمشي انما يطير في الهواء،لم نستطع الحاق به وباتت تفصلنا عنه مسافة كبيرة لكننا كنا نرى نقطة بيضاء تطير أمامنا تخيلناها هو.الطريق موحش والليل معتم وحالك السواد،لا تسمع الا نباح كلاب بعيدة،وأصوات طرقات أجنحة الخفافيش،الأمر الذي قبض صدري وجعلني أخاف عاقبة هذا اللقاء.شيئا فشيئا اقتربنا من المكان المقصود،من بعيد أخذت تصل الينا أصواتا غير مفهومة،أشبه بهدير البحر،لفت انتباهنا أن الأصوات تصدر عن كتلة بعيدة عنا لم نستطع تبيان ملامحها،لكنها كانت أشبه بخلية نحل غير متجانسة الشكل أو اللون،وكلما اقتربنا من المكان تظهر التفاصيل أجلى الى أن تكشف المشهد أمامنا،بيتا شديد القبح،كل شيء فيه ضخم وغريب،بوابة سوداء من خشب الأبنوس،أسوارعالية ،مئات من الأشخاص متجمهرين أمام البوابة. يتدافعون رجالا ونساء،أطفالا من كل الأعمار،حتي الرضع منهم تراهم متناثرين بين الأقدام ،أصحاء ومرضى ،متسولين ومقعدين وعميان ومشلولين،غانيات ومحجبات،قوادين ورجال أعمال، ملتحين ومرتدين جلاليب قصيرة وشباب في مقتبل العمر،مسؤولين وبسطاء من عامة الناس.....الكل هنا،كأنك في ساحة العيد،الجميع يصرخ بأعلى صوته ويحاول اجتياز البوابة التى يحرسها عبدان أسودان يحملان خيزرانتين لأبعاد الجمع،أمام العبدين يقف تسعة أشخاص يلبسون ثيابا غريبة يقومون بفرز الناس وتوزيعهم الى اتجاهين،الأول تظلله عدة اشجار مثمرة، نظيف به كراس وطاولات عليها أباريق ماء باردة وكؤس عدة وأوان مملؤة بالتمر والعسل،تقوم على الخدمة فيه مجموعة من الفتية يلبسون ثيابا سوداء ويعصبون رؤسهم بعصابات غريبة و حوله بضعة مردة لحراسته،هذا الاتجاه لا يذهب اليه الا المحظوظون .أما الثاني فلم يكن سوي ارض متربة مليئة بالقاذورات والقمامة خال من كل شيء الا البشر المحشورين كأنهم في يوم الحشر،من يقترب منهم يحس بالصهد وشدة الحرارة رغم غروب الشمس منذ ساعات عدة طويلة،ومن وسط هذا تختلط أصوات القران مع الأهازيج والموشحات الدينية،وترتفع الرايات في كل أرجاء المكان.
كدت أن أتيه بين أمواج البشر المتلاطمة لولا أن صديقي انتبه الي وسارع الي جذبي قائلا:"عليك الانتباه،خطوة واحدة خاطئة قد تدفع مستقبلك ثمنا لها ".هنا جاء الدليل وقادنا مباشرة عبر البوابة الضخمة الى الساحة الداخلية،وشتان ما بين المكانين،هنا خلت نفسي في أحد جنات عدن،حديقة غناء تفضي بك الى غرفة نظيفة مرتبة يتناسق فيها الأثاث بذوق واضح للعيان.انتظرنا فيها بعض الوقت،مر علي كلمح البصر،سمح لنا بعدها مقابلة الشيخ السوسي.
أدخلنا الى غرفة واسعة، أرضيتها مكسوة بأجود أنواع السجاد العجمي الفاخر،في جنباتها أرائك حديثة سوداء، وفي الصدر أريكة مميزة عليها وسائد عدة. كل حائط من الغرفة معلق عليه أشياء مختلفة عن الأخر الا أنها جميعا تشترك بوجود مرايا ذات اطار أبنوسي أسود معلقة عليها، فهنا ترى جلد نمر،وهناك نابي فيل من الأبنوس ،وعلى الحائط المقابل جلود ثعابين مختلفة الحجم والطول والنوع،الحائط الأخير تتوسطه لوحة كبيرة لأية الكرسي.أمام الأريكة المفردة ملقاة ،دون ترتيب، جلود نعاج وخراف ملونة بالوان عدة.تنتصب امامها طاولة ضخمة من السنديان،وضع عليها أوان عدة،معبأة بالبخور،أو بعض أنواع الفطور السامة، شدق الجمل،أظافر،عظام موتى مهترئة،رأس غراب،أجنحة خفاش،خليط من الملح والحرمل والشب،حراشف أسماك،تراب جلب من سبع مقابر مختلفة،لبان ومستكة،ريش،كراكير(ركام حجارة متقاربة في الحجم)،عرف ديك أسود،رجل دجاجة،سحالي مجففة،أجنة طيور مجففة....صف بجانب الأواني قواوير صغيرة مملؤة بدم سلحفاة برية،دم ضبع،ماء غسيل الموتى،دم امرأة حائض،ماء ورد،ماء اللوز،زعفران،زئبق أحمر،بول وغائط متيبس ،موقد مشتعل فوقه قدر من الماء المغلي،الى جانبه أحجبة معدة،مجموعة من الأوراق رسم عليها مربعات أو مثلثات أو مسدسات دون في داخلها أحرف وأرقام بتراتب معين متكرر.
ما أن جلسنا على الأريكة حتى دخل علينا الشيخ محاطا بأتباعه،أشار اليهم مومئا بالانصراف،ثم بادرنا بالسلام:"السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، اتجه مباشرة الى الأريكة التي تتوسط الحجرة،نظرت اليه لأتبين ملامحه جيدا،كان مربوع القامة ممتلأ بعض الشيء،وجهه حنطي مدور،يعلو جبينه زبيبة سوداء،لحية مشذبة بعناية ملحوظة،كرش صغير ينبأ عن رغد العيش،ثيابا رغم بساطتها الا أنها من أغلى الأقمشة المخاطة،عباءة من وبر الجمل،يغطي رأسه حطة بيضاء اللون تنسدل على كتفيه بانسيابية.
بدأ الشيخ كلامه بالبسملة ثم أعقبها بتلاوة الفاتحة ثم سورة النور وأخيرا المعوذتين،ثم توجه الى صاحبي بالسؤال عن أحواله وأحوال البلاد،الملفت للنظر أن الشيخ تجاهل وجودي تماما ،فلم يلتفت الي البتة أو يوجه حديثه لي ولو صدفة حتى أحسست أنني حشرة نكرة تتطفل على هذا اللقاء، مما أزعجني بشدة. أوضح الشيخ منذ البداية أنه لا يملك الكثير من الوقت ليضيعه،لهذا سيتحدث بتركيز واقتضاب.ابتسم صديقي قائلا:"نحن كلنا اذان صاغية"،علت ملامح التجهم وجه الشيخ وحدق في وجه صاحبي ثم كتف يديه ووضعهما على صدره،قبل أن يبتدأ الحديث بادره صديقي قائلا:"أرجو من حضرتكم أن تبقي عينيك محدقتين في عيني"،استغرب الشيخ هذا الطلب،لكن صاحبي أوضح أن الحديث هكذا يخرج من القلب الى القلب "،وافق الشيخ على مضض ثم قال:"لقد عثتم في الأرض فسادا،حل الفسق والفجور أينما حللتم ،حللتم المحرمات واستبحتم الأعراض،لم يردعكم ناموس أوكتاب،نهبتم الأخضر واليابس،كأن قوم ثمود وعاد بعثوا من جديد ،اني أرى طالعك جليا،ان أيام مجدك الى زوال،نجمك ومن معك في افول،ولن يجديك ماذا ما فعلت أو قدمت،لن ينفعك مالك أوبنوك،حتى عملك الصالح لن يغفر لك،راياتك ستنكس،وستنقلب عليك الدنيا،أرى دما يراق في أماكن عدة، و أناس جدد، يتقدمون الصفوف ،يرتدون الاكفان،لا يخافون من اعلاء كلمة الله، تضللهم رايات جديدة ترفرف عاليا حتى تحجب ضوء الشمس عن بقعة واسعة من الأرض،ليس أمامك مفر من مصيرك المحتوم،فاما أنت واما هم،واني والله أراهم منتصرين، لقد ولت أيامك ."حين سكت الشيخ بادره صديقي بالقول:"ان الضرورات تبيح المحضورات،لقد اجتهدنا لكن ابن ادم بطبعه خطاء".عقب الشيخ قائلا :"لقد بلغ السيل الزبى ".عندئذ سأله صاحبي :"ألا يوجد حلا اخر غير الغاء أحدنا للاخر؟"،صمت الشيخ وأطرق رأسه ثم أجاب:" لقد فات الأوان،القلوب أصبحت ملانة كالرمانة،لم يعد من حل سوى أن تسلم لهم وتنضوي تحت راياتهم".ابتسم صديقي وقال :"وان لم أفعل؟"،هب الشيخ واقفا وقال محتدا :"سيتولاك الله برحمته،ولن يمسي عليك مساء الغد،اللهم قد بلغت،اللهم قد بلغت".أدارصديقي ظهره للشيخ وخاطبني :"أتحدى الشيخ فيما قاله،انني أنتظر مولانا غدا وقت الغروب أمام ساحة الشهداء ليعلم الناس جميعا خطأ نبؤته،لا يمكن لأي قوة أن تلغيني من الوجود".أزبد الشيخ وأرعد بصوت كالبرق"ان غدا لناظره قريب،انك هالك ،هالك لا محالة" ثم غادرمجلسنا دون كلمة وداع.
لم أفهم من حديث الشيخ الا الوعيد،استغربت رباطة جأش صاحبي،الذي ما أن خرجنا عائدين حتى بادرني :"لا تجزع،فما قاله الشيخ لن يتحقق".سألته:"لكن كيف تعرف ذلك؟"أجاب "حين نظرت في عينيه قرأت ما سيحدث في المستقبل القريب."
تلك الليلة لم أنم،فيوم غد لن يكون كسائر الأيام،هبطت منذ الصباح الباكر الى بهو الفندق،طلبت القهوة،أمر غريب يحدث،نساء ورجالا،أطفالا وفتية...زرافات ووحدانا..سكان العاصمة هبوا عن بكرة أبيهم منذ بزوغ الفجر،الجميع يولي وجهه صوب ساحة الشهداء ليشاهد المعجزة الأخيرة لمولانا "كافي الحاجة السوسي"،ما أن اقترب وقت المغيب حتى ضاقت الساحة والطرقات المؤدية اليها بالخلق،لم يبق مكان لدعسة قدم.
وصلنا الساحة بشق الأنفس،لا هواء يمكن أن تتنفسه،سحب الغبار ترتفع أمتار عدة فوق الرؤس،وقفنا منتظرين،لفت انتباهي مجموعة من السياح الأجانب تقف على مبعدة من الجمع،يتحدثون فيما بينهم برطنة لم أفهمها،ليست من اللغات الرئيسية المعروفة،وان كانت تخرج منهم أحيانا بعض المفردات العربية الأمر الذي يشير الى المامهم الجيد بالعربية،وقد وقفوا على أهبة الاستعداد تحسبا لكل الاحتمالات.
اشرأبت الأعناقو شخصت صوب ضفة النهر المقابلة للساحة،حيث سيستقل الشيخ مركبا صغيرا لقطع نهر النيل متجها الى ساحة الشهداء حتى لا تضايقه الجموع المحتشدة.وقفت منتظرا كالأخرين،لكن الجزع كان قد هدني.التفت صوب صاحبي لأتفاجىء أنه بات بعيدا عني ،تلتف حوله مجموعات من الشباب الأشداء،من أين أتوا لا أدري، كأنهم شقوا الأرض وخرجوا،كان واضحا أنه يعرفهم جيدا،حيث كان يبادلهم الابتسام والحديث،بينما أحاطوا به كالسوار حول المعصم فلم يعد الوصول اليه يسيرا. أما هو فقد كان بارد الأعصاب،مبتسما،لا تظهر على محياه أي من علامات الموت.ومع تزايد تدافع البشر وجدت نفسي أقف وحيدا على طرف ساحة الشهداء،الجميع أمامي،الحشد،صاحبي ورفاقه،السياح الأجانب،كأنما قدر لي أن أراقب المشهد عن بعد.
ظهر موكب الشيخ على الضفة الأخرى من النهر،موكب حاشد، حملة رايات وطبول،الجميع يريد نيل بركة الشيخ ومرافقته في رحلته هذه.تكدس الخلق على ظهر المركب حتي اختفى الشيخ بين الجموع،تحرك المركب الذي رافقته بضعة مراكب أخرى،والغريب أن تماسيح النيل قد رافقت الموكب،ما أن لاحظت الحشود مرافقة التماسيح للمركب حتى علت صيحات التكبير والتهليل،لقد اعتبروا أن الأمر معجزة الهية تؤكد نبؤة الشيخ التي سيشهدون خاتمتها بعد قليل،تحرك المركب ببطء شديد،متمايلا تحت وطأة الثقل الذي يحمله،وكلما قطع خطوة كانت الأعناق تتنقل ما بين المركب وصديقي،فهل تتحقق النبؤة ما أن تطأ قدما الشيخ ضفة اليابسة أم تتحقق المعجزة قبل ذلك؟،وما أن اقترب الموكب من عرض النيل حتى هاجت الجموع وماجت وعلا الضجيج والصرخات،لم يعد من الممكن معرفة رد فعل الجمهور ،هستيريا غير مألوفة سرت بين الجموع،البعض تشنج والبعض الأخر سقط مغشيا عليه،وأخرون علت حناجرهم بالأدعية وايات القرأن،وحده صديقي ومن يحميه بقوا هادئين متماسكين كالسنديانة،لم يجزعوا أو يضطربوا،كأن كل هذه الخلق لا تنتظر تجسيد نبؤة موت صاحبهم بعد هينة من الوقت.
الهستيريا التي اندلعت على ضفة النهر سرعان ما انتقلت عدواها الى المراكب في عرض النيل،وبدا الأمر كأنه مباراة في الهياج والرقص والصراخ ما بين الطرفين،وكلما ارتفعت الصرخات على ضفة النهر يرد عليها حاملو الرايات في المركب بالقفز والرقص .المراكب اصبحت تتراقص مع اشتداد قرع الطبول.فجأة حدث ما لم يكن في الحسبان،انقلب المركب الرئيسي الذي يقل الشيخ رأسا على عقب،هجمت التماسيح على راكبي المركب،لم نعد نميز ما بين أجساد البشر والتماسيح،وفي لمحة بصر لم نعد نرى سوى بقعة دم كبيرة وسط النيل،الجميع اختفى،حتى المراكب غاصت في عمق النيل.همد الخلق أمامنا غير مصدقين،وباتوا كأن الطير على رؤوسهم،لم تعد تسمع حتى صوت رميةابرة.
في تلك اللحظة ،ومن مكان تجمع السياح علا صوت جهوري مخاطبا الحشد المذهول :"لا تدعوا هذا العاصي ينفذ بفعلته،انه وحده المسؤل عن اختفاء الشيخ وموته."،وكأنهم كانوا ينتظرون مجرد اشارة.المئات هجموا هجمة رجل واحد على صاحبي ورفاقه ،دافعين اياهم للتراجع نحو حافة النهر،وهكذا لم يكن أمامهم سوى الاختيار بين الموت تحت أقدام الحشد الهائج،واما أن يلقوا بأنفسهم في النهر،قفزوا في الماء طلبا للنجاة والحياة،فتلقفتهم التماسيح المتجمعة قريبة من ضفة النهر،ولم يبق منهم سوى بقعة جديدة من الدم الطافي على السطح .التهم النهر الشيخ وصاحبي ،تلفت نحو مكان السياح فلم أجد لهم أثرا ،لعلهم لم يكونوا هناك ،أو لعلهم رحلوا قبل أن ينتبه اليهم أحدا،لا أستطيع الجزم بهذا أو ذاك.
منذ ذلك اليوم لم يظهر الشيخ "كافي الحاجة السوسي"،رغم البحث المتواصل والمكثف عنه....وما زال مريديوه يمنون النفس بتحقق النبؤة.أما صاحبي فان انصاره بدأوا يتجمعون ويعدون العدة استعدادا لطهور الشيخ من جديد.
Keine Kommentare:
Kommentar veröffentlichen